رحمة الله على أستاذنا الفاضل محمد السيد سعيد.هذا رجل نبيل بكل معانى الكلمة، لى معه مواقف كثيرة كُلُها تدلُ على نبل أخلاق هذا المفكر الكبير. واسمحوا لى ألا أتحدث عن الجانب العلمى فى تكوينه، فزيارة واحدة لأى مكتبة مضطلعة بحقوق الإنسان المصرى والعربى أو بالاقتصاد السياسى للمنطقة العربية كفيلة بتوضيح من هذا الرجل. ولكننى أكثر حرصا على توضيح الجانب الإنسانى فى فارس غادر عالمنا حاملا فى صدره الكثير من الحب والاحترام لوطنه وعالمه.
وأبدأ بأولِ موقفٍ لى معه فى أحد مؤتمرات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حين اختلفت اختلافا شديدا مع أحد أساتذتى الأفاضل الذى هو صديق من أصدقائه الكبار، فانبرى الرجل للدفاع عن شاب صغير لا يعرفه وعن حقيه اللذين أشار إليهما:
أولا حقى الإنسانى فى الاختلاف مع الآخرين كبروا أم صغروا حتى وإن كُنتُ مخطئا، وحقى ثانيا فى الدفاع عما أعرف أنه الحق ما دمت أدافع عن موقفى بالحجة والمنطق وبلا أى تطاول.
وقد علمنى والحاضرين الكثير بكلماته تلك لدرجة أننى طالما كررت موقفه النبيل مع آخرين بالقول والفعل مذكرا نفسى والآخرين بأننى ما كنت لأفعل ما فعلتُ لولا القدوةُ التى أعطاها لى ولآخرين فى مواقف مماثلة.
لقد كان نبيلا حتى وهو يشير إلى الشاب الصغير بقوله: «الأستاذ معتز أصاب حيث أخطأنا جميعا» والحقيقة أنه لم يخطئ على الإطلاق وإنما أراد أن يرفع الحرج عن أولئك الذين وافقوا الأستاذ الكبير على رأيه ورفضوا أن يقولوا «أصاب صغير وأخطأ كبير».
ذكرت الموقف أمام إحدى زميلاتى فروت لى رواية أكدت لى نبل أخلاق هذا الرجل. فقد كانوا مجتمعين فى إحدى منظمات المجتمع المدنى المصرية ويبدو أن المكان لم يكن مهيأ للاجتماع بحكم ما كان فيه من غياب النظام بل النظافة فطلب من جميع الحضور المشاركة فى تنظيف وتنظيم المكان. وهو ما قابله البعض بشىء من الاستنكار والتردد إلى أن وجدوه يشمر عن ساعديه ويذهب إلى تنظيف أقل الأماكن نظافة وهو الحمام فوجدوا أنفسهم مضطرين بحكم الحرج أن يكونوا على قدر المسئولية ففعلوا مثلما فعل كبيرهم الذى علمهم الخلق وأعطاهم المثل. وحينما رويت له القصة بعد ذلك بسنين، رد بكل تواضع أن من نقلت القصة بالغت فى بعض تفصيلاتها وأن الشباب هم الذين بادروا بتنظيف المكان وهو فقط ساعدهم.
لكن الأهم كان تعليقه عن أن الإنسان المصرى يوجد داخله تكوين حضارى موروث لا يكشف عن ذاته إلا فى بيئة مناسبة وقيادة تضع له أهدافا محددة تخاطب فيه هذا الموروث الحضارى. وكان من أوائل من لفت نظرى لأهمية متغير القيادة فى بناء وبنية أى مؤسسة وهو ما يصدق على الدولة العصرية بحكم أنها مؤسسة المؤسسات.
وكان نبيلا حين قدمنى للأستاذ مكرم محمد أحمد بعدة أوصاف لا أستطيعُ تكرارَها ولكنه أكد على إحداها لأنها تعبر عنه هو شخصيا بامتياز وأصبحت قيمة غائبة مع الأسف بين أغلبية أصحاب القلم المصريين وهى الاستقلالية السياسية والفكرية والمصلحية. وأفاض فى تشخيص أحوال البيئة الثقافية المصرية وكيف أنها أصبحت تابعة للأجندة السياسية للدولة وأن المثقفين المصريين لم ينجحوا فى أن يحددوا أجندة مستقلة للمجتمع بمعزل عن أجندة الدولة وأن هذه ستكون مهمة صحيفة «البديل» حين تصدر.
كان نبيلا وهو يدافع عن الإنسان المصرى مؤمنا به وبقدرته على أن يستعيد مخزونه الحضارى بسرعة شديدة حين يجد معه وأمامه من يقودُه إلى مشروع وطنى مخلص يجمع بين أبناء الوطن على اختلاف طوائفهم السياسية والاجتماعية فتكون شدتهم فى الحق سيلا من العطاء لوطنٍ يستحقُ منا الكثير.
كان نبيلا حينما طلب إلىّ أن أشارك فى مقالات الرأى بصحيفة «البديل» ولكننى طلبت إليه شاكرا أن يعيد تقييم دعوته لى لأننى لست يساريا فرد بنبل أصحاب النفوس الكريمة: «ولكنك شاب مصرى صاحب رأى ورؤية لا بد أن ترى النور» (أعتذر لو كان فى هذا الكلام أى شبهة مدح للنفس، فهذا ما لا أقصده يقينا). وأقسِمُ بالله غير حانث، إننى كنت أتشكك أنه يخطابُ شخصا غيرى فأنا لا أعرف إن كان جادا فيما يقولُ بشأن الرأى والرؤية أم هو اختلط عليه الأمر فيظننى شخصا آخر.
ولكننى لم أستطع أن أراجعَه فيما قال طويلا حتى لا يظنَ أننى أدّعى التواضعَ متظاهرا به أبتغى فقط منه أن يكررَ على مسامعى مديحَه. فطلبتُ منه أن نُجربَ لمدة محددة عسى أن يكون فيما أكتبُ بعضٌ مما يتوقعُه، مع حقه تماما فى أن ينشر فى المساحة المخصصة لى أى مقال آخر يراه أولى بالتقديم، وهو حق أصيل له لم يكن بحاجة لى أن أكرره عليه، لكنه نهانى أن أفكر بهذه الطريقة أصلا لأن المثقفَ الحقيقى يكتب بيقينٍ حاسم وإحساس صادق بأنه يكتُبُ ليغيّرَ العالم نحو الأفضل، وأنه سيُقدِمُ على هذه الرسالة سعيدا بها مُستشعرا أهميتَها، وأن قُراءَه ينتظرونه كى يساعدَهم على تبصرِ جوانب الحقيقة المختلفة التى يملكُ منها وجها واحدا فقط وللآخرين الحق فى تَبيُن وجوهِها المختلفة، وهو موقف ليبرالى رائع ناضج وواعٍ.
وحين حصل على جائزة الدولة للتفوق، اتصلت مهنئا وقلت له «رائع أن يصحَ الصحيحُ فى مصرَ أحيانا، فهذا يعطى الأملَ فى أن صوابَ الاختيار ما زال ممكنا!» فرد مستغربا أننى أتشككُ فى أن صوابَ الرأى لايزال ممكنا بل ومنتقدا نبرة عدم اليقين فى تعبيرى عن إمكانِ أن يصح الصحيح. «اشتغل إنت بس ومالكش دعوة» كان رده القاطع بألا أفكر طويلا فى العقبات أو فى العواقب الذاتية للعمل والاجتهاد وأن الإحباط أو الخوف من الفشل ليس بديلا أخلاقيا. وكان درسا آخر من مثقف نبيل.
ويوم أن قلت له إننى سأسافر إلى الولايات المتحدة لفترة لا أعرف مداها، صمت صمتا له صوت، وسكن سكونا تمنيت أن يقطعه بأى كلمة: عتابا أو تشجيعا أو حتى استفسارا، ولكنه اعتبر أن سفر أمثالى نجاح لقوى التخلف فى طرد أبناء مصر خارجها، وحين جاء وقت الرحيل قال لى: «لا تذهب إلى هناك وتنسى مصر». وقلت له: «ما قدرش».
رويت له ذات مرة حوارا دار بينى وبين أحد باعة الصحف: هل لديك «البديل»؟ فقال لى: وما البديل؟! قلت له هذه صحيفة أعتقد أنها أكثر الصحف المصرية احتراما. قال لى إذن «البديل» هذه لن تنجح لأن ما ينجح فى مصر هو الصحف غير المحترمة.
رويت للمرحوم هذه المقولة القاسية طالبا رأيه، فرد النبيل محمد السيد سعيد: «حتى وإن فشلنا فلنا شرفُ المحاولة». فقلت له يا دكتور محمد إنت شخصيا محاولة عظيمة من مصر كى تتصالح مع ذاتها الحضارية، فرد بابتسامة متواضعة وكريمة ونبيلة: «أشكرك». وكان هذا آخر لقاء بينى وبينه.
حاولى مرة أخرى يا مصر، انجبى لنا المئات والآلاف من أمثال هذا الرجل النبيل، فلن ننجحَ إلا إذا ساد أمثالُ هذا الرجل الذى كان يعتقد أننا لن ننجح إلا إذا كانت ثقتُنا فى النجاح تتخطى بمراحل مخاوفَنا من الهزيمة ومللَنا من المحاولة.
نادرا ما أبكى على رحيل الناس، لاعتقادى أنهم قفزوا إلى ما نحبو إليه وكأننا أمواتٌ مؤجلون نبكى أمواتا سابقين، ولكن مع هذا الرجل غلبتنى إليه دموعى لحبى واحترامى لنبيلٍ لا أعرفُ مثله كثيرين. رحمة الله عليه، وأنقذ مصر من وهدتها، وأسكنه وإيانا فسيحَ جناته. آمين.