فى صباى ومطلع شبابى، ما أكثر ما كنا نسمع ونقرأ عن التمييز بين «الشرق» و«الغرب»، وما أكثر ما كان الشرق يوصف بـ«الروحانية»، والغرب بـ«المادية». الشرق موطئ الأديان السماوية كلها، وأهله متدينون يؤمنون بالغيب، وقانعون يرضون بالقليل، ويسلمون مصيرهم للقضاء والقدر، ولا يحاولون إخضاع الطبقية لأغراضهم، أما الغربيون، فقد ضعفت لديهم العاطفة الدينية، ويعتقدون أن من الممكن اكتشاف أى مجهول بالعلم، ودائمو السعى إلى تغيير حياتهم إلى الأفضل، وإلى تسخير الطبيعة لخدمتهم، ويعتقدون أن بقدرتهم التحكم فى مصيرهم وتشكيل المستقبل على هواهم.
لم يكن الجميع يقبلون هذا التمييز، ولكنه كان الموقف الشائع. لقد احتج بعض الكتاب على هذا التمييز، فقالوا إن ما يوصف بالروحانية فى الشرق ليس إلا من مظاهر التخلف ونتيجة من نتائج الفقر، وما يوصف بالمادية فى الغرب ليس إلا نتيجة تقدم الغربيين العقلى والعلمى، ونجاحهم فى استخدام قوى الطبيعة لصالحهم، كما يشهد بذلك تقدمهم فى الصناعة. بل لقد أنكر بعض الكتاب صحة القول بأن الغربيين أقل روحانية من الشرقيين، فقالوا إن الغربيين، إذا أردنا الإنصاف، أرقى أخلاقا وأكثر تعاطفا مع بعضهم البعض، وأكثر استعدادا للأخذ بيد الفقير ونجدة المظلوم، وأن كل ما يقال عن روحانية الشرق ليس إلا وصفا للعجز والجهل وقلة الحيلة.
ليس غريبا بالمرة أن هذا الكلام عن التمييز بين روحانية الشرق ومادية الغرب قليلا ما يسمع الآن، بل لقد كاد يختفى تماما اعتبار هذا التقسيم الجغرافى صالحا للتمييز بين الناس فكريا أو أخلاقيا. لابد أن من أسباب هذا التغير ما طرأ على العالم فى الخمسين أو الستين عاما الماضية من حصول البلاد المسماة بالشرقية على استقلالها، وتسارع التنمية الاقتصادية فيها، واقتراب العلاقة بين الشرق والغرب من علاقة الند بالند، بعد أن كان الغرب يحتل الشرق ويروج لمقولة أن «الشرق شرق والغرب غرب»، كما قال الشاعر الإنجليزى كبلنج فى أوائل القرن العشرين.
ثم حدث شىء جديد آخر فى سبعينيات القرن الماضى وهو انتشار ما سمى بظاهرة «المجتمع الاستهلاكى»، فى الدول الغربية أولا، ثم زحف هذه الظاهرة على المجتمعات الشرقية أيضا عن طريق نمو نشاط الشركات متعددة الجنسيات وما صاحبه من إجبار هذه المجتمعات، الواحد بعد الآخر، على اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادى. ومهما اختلفنا على تحديد معنى «المادية» و«الروحانية» فلابد من الاعتراف بأن انتشار ظاهرة المجتمع الاستهلاكى كان ينطوى على زيادة قوة النوازع «المادية» على حساب النوازع «الروحانية»، فى الغرب والشرق على السواء. وقد لمسنا هذا التطور بوضوح فى حياتنا اليومية والثقافية فى مصر، كما رأينا وسمعنا بمثله فى سائر البلاد.
هكذا يصبح من الشيق أن نتساءل عن مصير ما كان يسمى بـ«روحانية الشرق» فى ظل التغيرات السياسية الأخيرة فى مصر، والتى وصل عن طريقها ممثلو التيار الدينى أو السلفى إلى استلام دفة الحكم. إلى أى مدى يستطيع ممثلو هذا التيار كبح جماح التيار المادى الآخذ فى الانتشار غربا وشرقا، بل وإلى أى مدى نجا ممثلو هذا التيار، هم أنفسهم، من أثر هذا الاكتساح؟
•••
يخطر بالذهن لدى محاولة الإجابة على هذا السؤال عدة خواطر. أولها أن ممثلى هذا التيار الدينى أو السلفى ليسوا إلا رجالا ونساء من لحم ودم، لابد أن يتأثروا مثل غيرهم بما يجرى حولهم. ومن ثم فليس من المستغرب أبدا أن يصبح سلوكهم ونمط تفكيرهم، فيما يتعلق بالمادية والروحانية، مختلفا جدا عن سلوك ونمط تفكير ممثلى التيار الدينى أو السلفى منذ قرن من الزمان، أو حتى منذ نصف قرن، قبل أن تنتشر ظاهرة المجتمع الاستهلاكى هذا الانتشار. لقد تزامن زحف ظاهرة المجتمع الاستهلاكى على مصر مع تسارع تيار الهجرة إلى الخليج من جانب المصريين من مختلف فئات الدخل وقد أدت الهجرة، كما نعرف، إلى ارتفاع مستوى الدخل ارتفاعا ملحوظا وتغير نمط حياة المهاجرين بعد عودتهم إلى مصر عما كان قبلها، بل انتقل كثير منهم، بسبب الهجرة، من طبقة اجتماعية إلى أخرى. وقد قيل وكتب الكثير عن أن من أسباب انتشار الاتجاه السلفى فى مصر منذ السبعينيات تأثر المهاجرين المصريين بالفكر الوهابى السلفى الشائع فى البلاد الثرية بالنفط. ربما كان فى هذا التفسير بعض الصحة، وإن كنت لا أعتقد أنه السبب الأساسى لانتشار الفكر السلفى فى مصر. وعلى أى حال فمن المؤكد أن المهاجرين لدى عودتهم إلى مصر لم يجلبوا معهم فقط فكرا سلفيا بل أيضا مختلف سلع الاستهلاك، واستخدموا ذلك كدليل على صعودهم فى السلم الاجتماعى، وأصبح اقتناء هذه السلع، منذ ذلك الوقت، مؤشرا مهما على مركز الشخص الاجتماعى ومدى ما يتمتع به من احترام ممن حوله.
لماذا لم يستطع اشتداد قوة الفكر السلفى الذى شهدناه فى خلال الأربعين سنة الماضية، كبح جماح هذه النزعة الاستهلاكية، التى اشتدت قوتها بدورها خلال الفترة نفسها؟ أم أن هناك علاقة بين اشتداد النزعة الاستهلاكية وارتفاع نبرة التيار السلفى فى نفس الوقت؟ ان علماء النفس اكتشفوا أن للإنسان ميلا لإخفاء شعوره بالذنب لوقوعه فى خطأ ما، بالمبالغة فى إعلان تمسكه بالفضيلة المضادة تماما لما ارتكبه من ذنب. فهل لارتفاع نبرة التيار السلفى فى إعلان تمسكه بشعائر الدين، علاقة بخضوع الكثيرين من المنتمين لهذا التيار لإغراءات تتعارض مع ما يطالبهم الدين به، ومنها إغراءات المجتمع الاستهلاكى؟ هل من الممكن ان نفسر بهذا ما انتشر خلال الأربعين عاما الماضية من ظواهر من نوع موائد الرحمن فى شهر رمضان، التى ينفق عليها بسخاء رجال ونساء ممن يبتعد سلوكهم اليومى عن أبسط متطلبات الزهد والورع؟
لم يكن من المتوقع بالطبع أن ينتهى الخضوع لإغراءات المجتمع الاستهلاكى لمجرد وصول المنتمين للتيار الدينى والسلفيين للحكم فى أعقاب ثورة 25 يناير، بل أليس من الأرجح أن نريد الخضوع لهذه الإغراءات بعد اقتران المال بالسلطة؟ هل كنا نتوقع حقا أن نرى رئيس مجلس الشعب المنتخب، والمنتمى لهذا التيار، قد استخدم وسائل المواصلات العامة فى تنقلاته، أو حتى سيارة أكثر تواضعا مما استخدمها بالفعل بعد انتخابه؟ وهل كان من المدهش حقا أن نكتشف حادثة قيام عضو منتخب فى نفس المجلس، وينتمى إلى أحد الأحزاب السلفية، بإجراء عملية تجميل للأنف، مقابل مبلغ كبير من المال، فى الوقت الذى ذهب فيه إلى مركز الشرطة للادعاء بسرقة هذا المبلغ من سيارته على عكس الحقيقة؟ ثم أن نسمع بعد ذلك بوقت قصير عن حادثة منافية للأخلاق ارتكبها عضو آخر ينتمى إلى نفس التيار، داخل سيارة فى الظلام وفى الطريق العام؟
هل كان علينا حقا أن نتوقع من رئيس الجمهورية المنتخب، أن يتورع عن السماح بإجراء حفل عائلى فى فندق سياحى فى طابا بنفقات كبيرة، فى وقت يسود فيه الاضطراب فى الحياة السياسية وتشتد الأزمة الاقتصادية؟ وأن يتورع ابنه عن ركوب سيارة فاخرة وباهظة الثمن، وهو شاب صغير، ثم يخاطب بعض رجال الشرطة الذين يقومون بحماية منزل الرئيس بعبارات يستنكر فيها أنهم لا يعرفون ابن من هو، لمجرد أنهم لم يخطر ببالهم أن ابن الرئيس الذى جاء إلى الحكم بسبب انتمائه للتيار الإسلامى، يمكن أن يكون راكبا فى سيارة كهذه؟
هل يمكن لنا حقا، بعد أن حدث هذا كله، أن نتكلم عن «روحانية الشرق» أو «مادية الغرب»؟