بعدما حدث لحراكات وثورات الربيع العربى من مؤامرات وانتكاسات وثورات مضادة ومحاولات انتهازية لركوب موجاتها ومن ثم حرفها عن شعاراتها الكبرى، يشعر الإنسان بأن هناك رغبات، ظاهرة وخفية، لإماتة السياسة فى كل بلاد العرب.
ما عاد الهدف يقتصر على الفكر السياسى، وذلك من خلال الإصرار الدائم على موت الأيديولوجيات والأهداف الكبرى، واستبدالها بالدعوة إلى اختزال الفكر السياسى فى شعارات صغيرة، تهدف إلى تحقيق أهداف صغيرة، من أجل تغيير واقع المجتمعات بجرعات وعناوين هى الأخرى صغيرة.
***
ما عاد تشويه وتقزيم الفكر السياسى مطلبا كافيا. فالمطلوب أيضا هو نحر السياسة تنظيما وممارسة وتحشيدا لطاقات المجتمع، أى نحرها كفعل فى الواقع فى موازاة نحرها كنظريات وتأملات وأحلام إنسانية مشروعة.
فإذا كانت قيثارة ثقافة العولمة تعزف لحن الفردانية المطلقة التى تقود الإنسان إلى عبادة ذاته الأنانية الجشعة المستهلكة لكل شىء بنهم واستحواذ، فإن بيانو العرب يتناغم مع تلك القيثارة ليعزف لحن ضمور الحس والالتزام والتعاضد الإنسانى المجتمعى. عند ذاك، أية ثنائية موسيقية رائعة ستخلق ليسمعها الفرد العربى ليل نهار، مشدوها مخدرا ونعسانا، من أجل أن يعيش حياة التفاهة والصمت الذليل والإرادة السياسية المتناهية فى صغرها إلى حدود التلاشى.
تلك هى الأهداف المريضة التى يراد تحقيقها وتجذيرها فى حياة هذه الأمة وفى حياة إنسانها. لكنها أهداف غير قابلة للنجاح، إذ إنها ضد فطرة الإنسان وصحوات ضميره من جهة وأنها غير قابلة للتطبيق فى الواقع العربى من جهة أخرى. دعنا نذكر من يمارسون مثل هذا العبث بجوانب بالغة الأهمية بالنسبة لهذا الموضوع.
فأولا، لا يمكن للمجتمعات أن تعيش فى سلام ووئام إلا عن طريق السياسة التى تعرف بأنها مزاولة توزيع القوة والثروة فى المجتمع وذلك من خلال اتخاذ القرارات التى تطبق على جميع أفراد المجتمع.
لكن المختلف حوله هو وسائل تطبيق ذلك التعريف فى الواقع: فرض رأى واحد، أم تفاوض بين الأطراف، أم إصدار قوانين، أم استعمال القوة والغلبة والحرب؟
نظام الحكم العاقل هو الذى يختار وسيلة التفاوض، ليعقبها إصدار القوانين المشروعة الحاكمة للنزاعات، لتصبح ممارسة السياسة بردا وسلاما على الجميع.
منذ القدم، وعلى الأخص منذ الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو فى اليونان والحكيم كونفوشيوس فى الصين، مرورا بعشرات الفلاسفة والحكماء، والعالم يفتش عن تعاريف للسياسة وعن وسائل لممارسة السياسة، حتى وصلنا إلى ذلك التعريف وتلك الوسائل.
***
ملخص الأمر أن أى نظام سياسى لن يكون شرعيا ومقبولا إلا إذا قام على توافق بين مجتمع وسلطة دولة. والمجتمع لا يمكن أن يساهم من خلال كل فرد، فهذا غير ممكن عمليا، ولكنه يساهم من خلال مؤسسات مثل التنظيمات السياسية المدنية، ومثل وسائل الإعلام الحرة المستقلة الموضوعية، ومثل المجالس النيابية المنتخبة التى تعبر عن مشاعر ومطالب من انتخبوها.
وحدهم الفوضيون الذين يرفضون العمل السياسى المنظم ويسعون لتدمير الأسس السياسية التى تقوم عليها الدولة. فهل تريد مؤسسات الحكم فى بلاد العرب أن تنتمى إلى فكر الفوضيين وأن تشذ بذلك عن الطريق الذى تسلكه البشرية المتحضرة بشأن السياسة، فكرا وممارسة؟
نحن على دراية بما يعترى حقل السياسة من نواقص. وهى نواقص قادت الكاتب البريطانى فيرا بريتن لأن يصف السياسة بأنها «تنفيذ معبر عن عدم نضج الإنسان»، وقادت الكاتب الفرنسى ألبير كامو إلى القول باستهزاء بأن «الذين يملكون عظمة فى داخلهم لا يدخلون السياسة»، وأدت بمفكر متزن فى الاقتصاد مثل جيلبريث الأمريكى أن يصرخ يائسا «السياسة ليست فن الممكن، وإنما هى الاختيار بين ما هو مصيبة وما هو مر الطعم»، أو أن يقول المثقف المعروف رئيس دولة التشيك بمرارة من أن «السياسة يمكن أن تكون فن غير الممكن، أى فن تحسين أنفسنا وعالمنا». لكن ذلك الذم، وهو كثير، لم يدفع بالدول العاقلة إلى محاولة إماتة السياسة فى مجتمعاتها. ذلك أنها أدركت أن بديل السياسة تكون الحروب والصراعات العبثية الدامية.
ولذا، فثانيا، فإن ما نراه اليوم من دمار ومذابح فى عدة أقطار ما هو إلا حصيلة محاولات إماتة السياسة أو إيصالها إلى حدود العدم وقلة الحيلة.
***
فى وطن العرب، نحن الآن بين أمرين: فإما أن نسلك طريق إنضاج السياسة والسمو بممارستها، وذلك بتصويب أخطائها من خلال تحكيم القانون العادل المنصف، وإما أن نسلك طريق إماتتها عن طريق القوانين الجائرة واستعمال القوة المفرطة. عند ذاك لن نحصد إلا الندم وإلا البكاء على ملك لم نحافظ عليه كبشر عاقلين، فموت السياسة هو أقصر طريق لموت المجتمعات والدول، والتاريخ يشهد على ذلك.