عن الفارق بين الشرعية الثورية والاستبداد القانونى - زياد بهاء الدين - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الفارق بين الشرعية الثورية والاستبداد القانونى

نشر فى : الثلاثاء 17 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 17 أبريل 2012 - 8:00 ص

الثورة والقانون مفهومان متعارضان بطبيعتهما. الثورة تقوم لأن الناس تقرر أن التغيير فى إطار النظام القائم والقوانين التى تحكمه لم يعد كافيا أو ممكنا، وأنه يجب الخروج على هذا الإطار وهدمه من أجل إعادة بناء مجتمع جديد. لا يمكن تصور أن تقوم ثورة وتحترم النظام القانونى السابق وإلا كانت مجرد حركة إصلاح أو تغيير. والتناقض بين الثورة والقانون حتمى ولو لفترة معينة، إلى أن يجد المجتمع أنه قد قام بالتغييرات المطلوبة فى الدولة والحكم والسلطة، فيبدأ فى إنشاء نظام قانونى جديد يستمد منه شرعيته.

 

ومن هنا فإن الحديث عن مفهوم «الشرعية الثورية» ليس كلاما مرسلا، وإنما له معنى محدد للغاية، وهو أنه فى اللحظة التى يكون فيها النظام القانونى الموروث قد فقد شرعيته، فإن المجتمع يقبل ويرحب بما تتخذه قيادة الجماهير من قرارات قد تخالف القانون الرسمى ولكنها تعبر عن رغبة الشعب وعن آماله. ولذلك فإن نهاية المرحلة الانتقالية لا تعنى مجرد الانتهاء من انتخاب برلمان ورئيس للجمهورية وتعيين حكومة جديدة، وإنما الأهم هو أنها تعنى أن المجتمع وقد انتهى من مرحلة الهدم قد صار مستعدا للبناء، وأنه قد صار لديه إطار قانونى جديد يعبر عن التغير فى الفكر وفى القوى وفى المصالح التى جاءت بها الثورة، وأنه صار مستعدا للانتقال من مفهوم الشرعية الثورية إلى شرعية قانونية جديدة.

 

فى ضوء ما تقدم، أخشى أن يكون ما تمر به مصر الآن وضع فى غاية الخطورة والصعوبة، إذ بينما لا يوجد لدينا شرعية قانونية جديدة، فإنه لا يوجد لدينا أيضا تعبير واضح عن الشرعية الثورية، بل نحن أمام وضع شديد الاضطراب، يتراوح بين الثورى والقانونى، ويمكن أن يكون تمهيدا لاستبداد جديد يقوض فكرة دولة القانون ذاتها. وفى تقديرى أن هذا الوضع قد تجلى فى ثلاث إشكاليات على مدى العام السابق:

 

الإشكالية الأولى عبرت عنها المحاكمات التى شغلت الناس، سواء فى الفساد المالى أو السياسى، ولم يصدر عنها إلا أحكام قليلة لم ترض الجماهير أو تشفى غليلها. ووجه المشكلة هنا أن المسئولين عن حكم البلاد اختاروا أن يلاحقوا فساد النظام السابق باستخدام قوانين كانت مشرعة فى الأصل لحمايته، فكانت النتيجة أن الجرائم التى يلاحقونها فى الغالب غير قابلة للإثبات، والفساد لا يوجد ما يؤثمه. وهكذا استوى من قتل وعذب المئات بمن أغفل استكمال إقرار ذمته المالية، ومن استولى على مئات الملايين بمن ارتكب مخالفات إدارية تافهة، وامتلأت النيابات والمحاكم بالآلاف من الدعاوى والشكاوى التى اختلط فيها الجاد بالهزلى والحقيقى بالكيدى، والأهم من ذلك أن الأحكام صدرت فى الجرائم البسيطة وتراخت فى الجرائم الأخطر. لماذا؟ لأننا ــ تحت ضغط الإعلام والرأى العام ــ نتراوح بين فكرة الشرعية الثورية التى يجوز لها تجاوز القانون والإجراءات وقواعد الاثبات، وبين الشرعية القانونية التى تستلزم أن يتم الالتزام بحرفية القانون وإجراءاته ولو جاءت بنتائج يرفضها المجتمع.

 

الإشكالية الثانية هى العلاقة بين البرلمان والميدان، إذ تم تقديم البرلمان الجديد المنتخب على أنه يحدد لحظة الانتقال الكامل من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية، وأنه بانتخابه لا يعد هناك سبب أو مبرر لأى تظاهر أو اعتصام أو موقف فى الشارع من أى نوع، وأن نزول الميدان فى وجود برلمان منتخب هو نوع من الخيانة والفوضى، بينما الحقيقة أن تشكيل البرلمان كان يجب اعتباره خطوة فى طريق طويل للانتقال من الثورة إلى الدولة، تلحقها خطوات لا تقل أهمية ولا صعوبة، منها وضع دستور جديد، وانتخاب رئيس، والاتفاق على آلية اختيار الحكومة، وعقد انتخابات نقابية ومحلية نزيهة، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة، ومنح القضاء استقلاليته الكاملة. كل هذه خطوات على المجتمع أن يقطعها قبل أن يمكن القول أن انتقالا كاملا قد تحقق من شرعية الثورة إلى شرعية القانون، وبالتالى أن البرلمان ومؤسسات الدولة الجديدة قادرة فعلا على أن تحل محل الميدان.

 

وأخيرا فإن الإشكالية الثالثة ظهرت فيما أصدره مجلس الشعب من تشريعات قليلة، وأخطرها تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية فى الأسبوع الماضى، والذى جاء بناء على طلب جماهيرى بأن يتم استبعاد بعض رموز النظام السابق من الانتخابات الرئاسية.

 

وهنا ظهر التناقض واضحا بين منطق الثورة ومنطق القانون، إذ تراوحت الجلسة بين تأكيد على التزام القانون المعروض بالدستور وأصول التشريع وبين التأكيد على أن مجلس الشعب ليس عليه احترام لا هذا ولا ذلك لأن الشرعية الثورية هى الحاكمة. والنتيجة أن المناقشة استغرقت سبع ساعات شهدنا فيها تفصيلا قبيحا للقانون، وربطه بأشخاص محددين بشكل سافر، ومساومات لا تجوز فى مجلس تشريعى، وتجاهل للمبادئ الدستورية الخاصة بعدم رجعية القوانين وعدم فرض عقوبة خارج المحاكم، وتصويت للأغلبية على تعديلات معينة ثم العدول عنها بالكامل خلال دقائق، وعشرات التعديلات التى ترد على مادة القانون الوحيدة ثم ينتهى التصويت لصالح المشروع الأصلى دون أى تعديل، وفوضى غير متصور حدوثها لو كان واضحا ما إذا كانت المرجعية هى الثورة ومطالب الجماهير أم القانون وأصول التشريع.

 

وهنا مربط المشكلة، أننا نقبل الشرعية الثورية بشكل انتقائى تماما، ثم نعود لشرعية القانون متى انتهت الحاجة لها وصار الالتزام بالقانون والدستور والإجراءات واللوائح مطلوبا. ولذلك استغرق تعديل قانون تعويض شهداء الثورة حوالى شهرين لأنه كان عليه احترام اللوائح واللجان ومراعاة حسن التشريع والمبادئ الدستورية، بينما تم تمرير تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية فى أربع وعشرين ساعة لأن الشرعية الثورية تقتضى ذلك.

 

أخشى أن يكون ذلك بداية استبداد جديد، يحتمى بالقوانين والإجراءات متى كان ذلك ملائما، ويلجأ للشرعية الثورية متى كانت تعطى مخرجا مناسبا لتحقيق أغراض سياسية معينة.

 

الانتقال من الثورة إلى القانون ممكن وضرورى، وهو ما سوف يحدد فعليا نجاح أو فشل المرحلة الانتقالية. ولكن الانتقاء بين الثورة والقانون بما يحقق أهدافا سياسية ضيقة وقصيرة المدى هو بداية الاستبداد لأن قيمة القانون تتراجع، بينما الشرعية الثورية لا يتم احترامها حقيقة. لنحترم الشرعية الثورية ولنحترم القانون ايضا، وليكن ذلك عن طريق وضع مسار واضح للانتقال بينهما وفقا لما يحقق الصالح العام والتوافق الوطنى، وإلا فسنجد أن ما نشرعه اليوم من قوانين بالمخالفة للدستور ولمبادئ التشريع سوف يلاحقنا غدا حينما تدور الدائرة فلا نجد لا قانونا يحمى، ولا ثورة تدافع عن مصالح الناس.  

زياد بهاء الدين محام وخبير قانوني، وسابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئيس هيئتي الاستثمار والرقابة المالية وعضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري.