في الأربعينيات من القرن الماضي وفي جامعة شيكاجو رفض عالم الفيزياء الفلكية الهندي الكبير سوبرامانيان شاندراسكار (Subrahmanyan Chandrasekhar) أن يلغي مادته لهذا الفصل الدراسي، حيث لم يسجل بها إلا عدد قليل من الطلبة، في هذا الوقت كان شاندراسكار يعمل على بحث له في مرصد في ولاية ويسكونسن، هذا معناه أن يقود سيارته من المرصد للجامعة لمسافة 154 كيلومترا تقريبا أسبوعيا ليعطي المحاضرة لهذا العدد القليل من الطلبة، المثير في الموضوع أن هذا الفصل دخل التاريخ لأنه الفصل الوحيد الذي حصل فيه الأستاذ وجميع الطلبة على جائزة نوبل في الفيزياء!
لنترك شاندراسكار ونذهب إلى الأمريكي كارل وايمان (Carl Wieman) الحاصل على جائزة المؤسسة القومية للعلوم الأمريكية للتدريس المتميز وجائزة أستاذ العام من مؤسسة كارنيجي ووسام أورستد من الجمعية الأمريكية للفيزياء، الذي يُعطي لمن أظهر تميزا كبيرا في تدريس الفيزياء، بالإضافة إلى كل ذلك حصل أيضا على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2001!
ماذا نتعلم من كل ما سبق؟ نتعلم أن التدريس والبحث العلمي جناحان للتقدم. الكثير من الباحثين يرون أن التدريس أقل منزلة من البحث العلمي أو أنه يُترك لمن هو أقل منزلة من الباحث، وأعتقد أن المثالين السابقين ينفيان ذلك، العمل على البحث العلمي ينفع البشرية وهذه واحدة، و إذا درَّست علمك للأخرين وظهر منهم عدد من الباحثين المتميزين وأثروا الحياة العلمية أو انضموا للحياة العملية وأنتجوا تكنولوجيا نافعة (سنتحدث في المستقبل عن علاقة العلم بالتكنولوجيا)، فأنت لك يد في ذلك وهذه أخرى. دون أبحاث علمية لن نجد ما ندرسه، ودون تدريس لن يخرج باحثون يقومون بالبحث العلمي!
تكلمنا عن البحث العلمي والتدريس والفيزياء. إذا فنحن على موعد مع الدكتور محمد عبدالمقصود النادي أستاذ الطبيعة النووية، وثاني شخص في الشرق الأوسط يتعمق في الطبيعة الذرية بعد الدكتور علي مصطفى مشرفة.
البدايات المبكرة للدكتور النادي مبشرة للغاية: تخرج في كلية العلوم جامعة القاهرة عام 1940 بامتياز مع مرتبة الشرف، ثم الماجستير في الطبيعة ثم السفر لإنجلترا والحصول على دكتوراه الفلسفة من جامعة لندن عام 1948، وعندما عاد إلى جامعة القاهرة ترقى في مناصبها حتى حصل على الأستاذية ثم أستاذ كرسي الفيزياء النووية عام 1961 ورئيس قسم الفيزياء بهيئة الطاقة الذرية من سنة 1960 ولمدة عشر سنوات، ورئيس قسم الفيزياء بجامعة القاهرة (في الفترة من 1964 وحتى 1970 جمع بين هاتين الرئاستين)، بالإضافة إلى عمادته لكلية العلوم بجامعة القاهرة في الفترة من 1971 وحتى 1974، ولكن لا تظن أنه استغرق في هذا العمل الإداري وكفى، بل إنه استخدم هذه المناصب ليؤسس لمشروعه التعليمي.
الدكتور محمد عبدالمقصود النادي يُعتبر مدرسة علمية كاملة، فبالإضافة إلى الإشراف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه (إشراف علمي دقيق ومثمر وليس مجرد إشراف سطحي أو على الورق لزيادة عدد الرسائل والتفاخر بهذا الرقم!)، فإن علوم الفيزياء النووية والنظرية مدينة له بالانتشار في جامعات القاهرة والمنصورة والزقازيق وجنوب الوادي، هذا على الجانب التعليمي، فماذا عن الجانب العلمي؟
في عام 1968 حصل الدكتور النادي على دكتوراه العلوم من جامعة القاهرة، أبحاثه تفوق المائة والثلاثين وفي مجلات عالمية مرموقة، مثلا شعرت بفخر شديد وأنا أبحث في أرشيف مجلة Nature حين وجدت بحثا للدكتور النادي في عدد أكتوبر 1949 وهو المؤلف الأوحد لهذه الورقة العلمية في هذه المجلة المرموقة! وقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الفيزياء ثلاث مرات، ثم جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية سنة 1978، ثم وسام الجمهورية من الطبقة الثانية سنة 1962، ومن الطبقة الأولى سنة 1971 بالإضافة إلى وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى سنة 1979 وجائزة مبارك في العلوم سنة 1998، هذا على الجانب العلمى، فهل اكتفى بذلك؟
شارك الدكتور النادي في إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية وأنشأ عدة معامل في كلية العلوم بالإشتراك مع دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق ومع ألمانيا وعمل، وأعتقد مازال يعمل بها، الكثير من الطلبة والباحثين حتى الآن، كما شارك في إنشاء جامعة المنصورة وعمل بها كنائب لرئيس الجامعة.
هل مازلت ترى أنه إما التركيز على العملية التعليمية والتدريس وإما التركيز على البحث العلمي؟ رحم الله الدكتور محمد عبدالمقصود النادي الذي رحل عن دنيانا في 2001 عن عمر يناهز 83 سنة.