صوت المكان عيذاب - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صوت المكان عيذاب

نشر فى : الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 7:58 م

أمضيت عشرة أيام فى «عيذاب» ومحيطها. يقع ميناء عيذاب على الساحل المصرى من البحر الأحمر، غير بعيد عن البلدة الصغيرة «أبورماد» فى أقصى جنوب شرق مصر على الحدود مع السودان الشقيق. ويذهب الرحالة فى العصور الوسطى إلى أن اسم هذا الميناء الواقع قبالة جدة ومكة المكرمة إنما استمد من المشقة والعذاب التى يعانيها الحجاج. لقد كانت مشاق الحجاج عبر قرون طويلة فى هذا الطريق مردها صعوبة التضاريس، وندرة المياه، والحالة المتوترة أو العدائية مع قبائل «البجاة» التى كانت تسيطر على الشطر الجنوبى من صحراء مصر الشرقية.

وحرى بنا القول إن قبائل البجاة لم تكن ذات سلوك عدائى تجاه الحجاج بقدر ما كانت لها اشتباكات ونزاعات مع السلطة المركزية فى القاهرة، وهو ما انعكس على خشونة تعاملهم مع الحجاج، حتى أن الرحالة الشهير ابن جبير – الذى حج عبر عيذاب فى 579 هجرية – ينقل لنا العبارة التى يتندر بها أصحاب القوارب (المصنوعة من ألواح الخشب) والتى يقولون فيها: «علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح» دلالة على استخفافهم بعدد الموتى من الحجاج نظير الحصول منهم على أجرة النقل فى بيئتهم الفقيرة.

كانت مسارات الحج منطبعة فوق الطرق التاريخية إلى عيذاب، والتى كانت الحضارة المصرية القديمة قد طرقتها فى حملات عسكرية وتجارية وثقافية. وكانت أهم هذه الطرق هى: «قوص- القصير، أو قفط-مرسى علم، أو إدفو -برنيس».

غير أن الطريق الممتد من قوص (على ثنية قنا) إلى القصير (على البحر الأحمر) كان واحدًا من أهم طريقين إلى الحج. ولعل ذلك هو الذى جعل من ميناء القصير على البحر الأحمر أحد أهم نقاط العبور التاريخية من البحر الأحمر المصرى إلى البحر الأحمر السعودى. والحقيقة أن القصير لم تنشأ فقط لخدمة الحج فى العصر الإسلامى، بل كانت أحد أهم موانئ مصر القديمة هى وميناء ساو (سفاجا الحديثة)، حيث كانت الحملات المصرية إلى بلاد بونت تنطلق من هنا.

على مدى ثلاثة عقود مضت سافرتُ فى درب الحج المصري، فى صحراء مصر الشرقية. ولأنى أفضل السفر على الأقدام أو فى سيارات بطيئة الحركة أو أخيم فى هذه القطاعات أو تلك، فقد تلمست فى دروب الحج المصرية تلك الطبقات الحضارية المتراكبة التى لا يمحوها الزمن، وما تطبعه من أثر فى النفس والعقل.

غير أن أكثر ما يستوقفنى فى رحلاتى تلك هو تعطل الوظيفة الحضارية لهذه الدروب مع الثورة الحديثة فى وسائل الانتقال وسبل المواصلات، إذ ساهمت هذه الثورة فى خلق مفاهيم جديدة فى علاقات البشر عبر المكان، اصطلح على تسميتها بـ«موت المسافة» أو «موت الجغرافيا» دلالة على تراجع أهمية العوائق الجغرافية وتلاشى أثر المسافات البعيدة التى ظلت مهيمنة على حياة الإنسان وأخضعته للانسياق والإذعان.

لقد ظهر مصطلح «موت المسافة» مثالًا لتلاشى الأثر الحتمى للصعوبات والمشاق، وتناقص التهديدات والمخاطر التى أحاطت بالبشر خلال سفرهم إلى الحج عبر الطرق التقليدية. كان السفر عبر هذا الدرب يستغرق نحو شهرين متتابعين، وربما تجاوز ذلك إلى ثلاثة أشهر أو أربعة. وحين تقدمت وسائل المواصلات فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر كانت رحلة الحج لا تقل عن أربعين يومًا، وظل المعدل يتراجع مع تطور وسائل نقل البر والبحر حتى وصلنا اليوم إلى رحلة بالطائرة عبر بضع ساعات.

وقد لوحظ أن ثورة الانتقالات والاتصالات والمواصلات، بمثل ما جلبت من راحة وسهولة ويسر بمثل ما تسببت - عن دون قصد - فى ضعف الوعى الجغرافى الإنسانى، وتراجع فهم الإنسان للبيئة، وتفككت أواصر الارتباط العضوى الذى عاشه الإنسان دومًا مع المكان والتكيف مع تحدياته.

إن الحاج اليوم الذى ينتقل من القاهرة إلى مكة أو المدينة برحلة فى الجو فى بضع ساعات هو حاج فقير فى وعيه الجغرافى، يعوزه ذلك الإدراك البيئى والتاريخى والأنثروبولوجى، أو ما يمكن جمعه فى المصطلح الجديد الشهير «الطوبوفيليا» أى «حب المكان والارتباط به والانتماء إليه».

لقد اتجهت شعوب العالم الإسلامى إلى الحج فى شكل أفواج وجماعات، وكانت تحتشد فى أربع محطات رئيسة: بغداد من جهة الشمال الشرقي، دمشق من جهة الشمال، تعز من جهة الجنوب، والقاهرة من جهة الغرب.

وكان فوج الحج المصرى يجمع معًا كل الحجاج الوافدين من بلاد الأندلس، وبلاد المغرب، وشمال إفريقيا وبلاد التكرور فى غرب القارة الإفريقية علاوة على بلاد السودان، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن موكب الحج المصرى كان يستقبل حجاجًا من مسلمى روسيا وأوروبا، حين كان هؤلاء يتخذون مسارًا بحريًا من البحر الأسود إلى البحر المتوسط فيبلغون الإسكندرية ثم ينضمون إلى الموكب المصرى المنطلق من القاهرة. كان موكب الحجيج المصرى يتنقل بين معالم جغرافية فى نزهات ممتعة تجمع بين المعرفة والتجارة والسفر المقدس، مثلما تجمع بين المخاطرة والمجازفة والترقب والخوف والرجاء.

وكى يبلغ الحجاج القاهرة للتجمع والانطلاق كان بعضهم يفد برًا من السلوم عبر مريوط إلى الإسكندرية، أو من بلاد الشمال الإفريقى بحرًا إلى الإسكندرية، ومن هذه الأخيرة يركبون النيل إلى القاهرة. أما الوافدون من الجنوب فيأتون عبر درب الأربعين أو النيل من أسوان والنوبة.

وخلافًا لما هو معتقد من أن درب الحج المصرى كان يتجه من القاهرة إلى سيناء ومنه إلى الحجاز فإن أصل الطريق المصرى للحج كان عبر صحراء مصر الشرقية فيما يعرف بطريق عيذاب الذى اندثر اليوم وصار أثرًا بعد عين.

على المستوى الروحى، تركت رحلات الحج أدلة مقدسة فى كل الصحارى المصرية. وهناك مقامات وأضرحة للأولياء الذين لقوا ربهم فى طريق الحج بالصحارى المصرية. ولعل أشهرهم قصة العارف بالله أبى الحسن الشاذلى المتوفى هنا فى 656هـ، فى صحراء حميثرة فى طريق عيذاب. وقد أعطى أبوالحسن الشاذلى اسمه لقطاع مهم من وسط صحراء مصر الشرقية فى طريق عيذاب، والذى بلغت محبة أهل الصعيد له أن توافدوا بعشرات الآلاف إلى زيارة مقامه والاستراحة فى جواره. فى ذكرى مولده من كل عام.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات