بعيدا عن التعليق على الأحكام القضائية، فإن استمرار العمل بقانون تقييد حق التظاهر السلمى يعنى أن الدولة ماضية فى ذات المسار الذى يأخذنا نحو المزيد من الاحتقان فى الشارع، والانقسام فى المجتمع، والدفع بالشباب نحو انتهاج وسائل أكثر حدة للتعبير عن يأسهم من أن يكون لهم صوت مسموع.
كلما بدا أن هناك احتمالا لانفراج سياسى ولو محدودا، أو ارتفعت أصوات عاقلة تدعو الدولة لمراجعة موقفها من قضية الحريات بشكل عام، عدنا مرة أخرى إلى نقطة البداية أو ما دونها لأن أصواتا أكثر حدة وأعظم تأثيرا تنجح فى إقناع صانعى القرار وجانب لا يستهان به من الرأى العام بأن التراجع عن هذا القانون وإطلاق سراح المسجونين بسبب التعبير عن آرائهم يعرضان البلد للفوضى والعنف ويعرقلان التنمية الاقتصادية والتصدى للإرهاب. ولكن الحقيقة أن هذا المنهج فى التفكير، والذى التزمت به الدولة خلال العامين الماضيين، لا أساس له من الصحة، وقد ثبت عدم جدواه.
تقييد حق التظاهر السلمى لا يحمى المجتمع من العنف والفوضى ولا يحقق الأمن والاستقرار لأن من ينوى ارتكاب العنف ورفع السلاح فى وجه الوطن والمواطنين لن يردعه قانون يقيد حرية التظاهر والاحتجاج، خصوصا أن السلطات لديها من النصوص الجنائية الأخرى ما يكفى دون تقييد هذا الحق الدستورى. ولا أظن أن منع التظاهر السلمى قد أثر فى المعركة ضد الاٍرهاب، بل كل ما حققه هو شق الصف وإقصاء شباب مخلص ومتحمس خارج الساحة السياسية فى وقت يحتاج فيه البلد إلى ضم الصفوف وحشد الطاقات واستعادة ثقة الأجيال الشابة فى جدوى المشاركة والتغيير.
أما القول بأن التحديات الجسيمة التى يواجهها الوطن، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لا تسمح بترف الاختلاف فى الرأى والتشكيك فى أداء الحكومة، فهو قول مغلوط لأن الحقيقة أن ما يحقق الاصطفاف الحقيقى فى مواجهة تلك التحديات هو تعدد الآراء ومساءلة الحكومة والمشاركة فى صنع القرار لأن الشعب يكون عندئذ صاحب مصلحة، ورقيبا على أجهزة الدولة، وشريكا فى تحمل النتائج. وترديد مقولة «اسكتوا ودعوا الحكومة تعمل» يعنى فى الواقع إلغاء كل رقابة وحساب، خاصة فى ظل برلمان مفكك وقليل الحيلة، ومجتمع مدنى تحت الحصار، وإعلام يدافع عن استقلاله. من أين إذن تأتى الرقابة الشعبية الضرورية لتصحيح الانحراف وكشف الفساد والرجوع عن القرارات والسياسات الخاطئة؟
ثم نأتى للإدعاء بأن التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمار يحتاجان إلى استمرار العمل بالقوانين المقيدة للحريات. وهنا يكفى تأمل أسباب الأزمة الاقتصادية للتيقن من أن تقييد حق الشباب فى الاحتجاج لم يسهم فى حلها بل أدى إلى تفاقمها لأن حالة الاحتقان السياسى لا تشجع الاستثمار ولا تعيد السياحة، بل تحد من قدرة المجتمع على الابتكار والابداع، وترفع تكلفة الإنتاج، وتضعف ثقة المستثمرين فى استقرار البلد وأمنه الاجتماعى وعدالة نظامه القانونى.
القانون يفقد مصداقيته ومعها شرعيته حينما يفضى تطبيقه إلى نتائج تخالف المنطق والفطرة والعدالة. وقانون التظاهر فقد شرعيته من فترة طويلة، حينما بات واضحا ومعروفا أنه لا يهدف إلى حماية المجتمع من العنف والبلطجة وإنما إلى منع الشباب من التعبير عن أرائهم بحرية. وفى كل مرة اقتيد فيها شاب أو فتاة إلى السجن تطبيقا لأحكامه، فقد المزيد من شرعيته أمام ابتسامة وشجاعة المحكوم عليهم. فما بالنا بشباب يحكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة لأنهم رفعوا أعلام بلدهم ونزلوا إلى الشارع ليحتجوا سلميا على اتفاق غامض أبرمته الدولة دون مقدمات أو تشاور. هنا لم نعد أمام قانون فقد مصداقيته فحسب، بل سقط سقوطا مدويا وصار رمزا للابتعاد عن المنطق والعدالة.
والواقع أن الخلاف المستمر فى المجتمع لم يعد بشأن قانون التظاهر فى حد ذاته بحيث يمكن حسمه بعدة تعديلات فى الصياغة أو العفو عن بعض المسجونين، بل أصبح يتعلق بفجوة شاسعة تفصل بين رؤيتين متناقضتين للتنمية والإصلاح. واحدة تفترض أن الدولة لن تتقدم ومؤسساتها لن يعاد بناؤها والتنمية الاقتصادية لن تتحقق إلا إذا سكتت كل الأصوات المعارضة والتزم الجميع الصمت حتى تؤدى الحكومة عملها فى هدوء. أما الأخرى فترى أن حيوية المجتمع وتعدد الآراء ومشاركة الشباب ــ مهما كانت تعبيراته لاذعة ــ ضرورة لكى تصحح الدولة مسارها وتطلق طاقاتها الإبداعية وتعيد للبلد وحدته. وبما أن الرؤية الأولى لم تحقق الأهداف المنشودة منها، ألم يحن الوقت للعدول عنها والاقتناع بأن بلدا مثل مصر، بحجمها وتنوعها وثراء مجتمعها لن تنمو وتتقدم فى ظل مناخ مقيد للحريات ودون مشاركة الشباب فى تحديد مستقبله؟