تزامن الاهتمام الإعلامى والشعبى خلال الأسبوع الماضى بموضوعين قد لا يبدو للوهلة الأولى أنهما مرتبطان: الإعلان عن الاحتفال العالمى بانتهاء أعمال حفر قناة السويس، والزيارة المفاجئة لرئيس مجلس الوزراء إلى معهد القلب وما ترتب عليها من فتح ملف الحالة المتردية للمستشفيات العامة والخدمات الصحية. والموضوعان، فى تقديرى، مرتبطان لأنهما يعبران عن اشكالية أساسية فى التنمية الاقتصادية، وهى كيفية تحديد أولويات الإنفاق بين إطلاق المشروعات القومية الكبرى وبين العمل على إصلاح وتجديد وتطوير الخدمات العامة القائمة بالفعل والتى تعانى من الإهمال الجسيم ونقص الموارد وتردى نظام العمل والعاملين.
للمشروعات القومية الكبرى فوائد اقتصادية وتنموية عديدة: فهى تساعد على حشد الموارد والاستثمارات المحلية والدولية، ورفع معدلات التشغيل، وزيادة الطلب المحلى على مستلزمات البناء، كما أنها تساهم فى جلب تقنيات حديثة للبلاد. هذا كله بجانب ما يضيفه المشروع العملاق فى حد ذاته إلى الاقتصاد القومى سواء كان سدا مائيا، أم قناة ملاحية، أم ملايين الأفدنة، أم مدينة سكنية جديدة. المشروعات الكبرى إذن ــ لو أحسن اختيارها ــ يمكن أن تكون قاطرة لجذب الاقتصاد نحو النمو والإنتاج والتشغيل. ولكن لهذه المشروعات العملاقة أيضا جانب سياسى وإعلامى لا يمكن إغفاله، ولذلك نجد أن كل حكم جديد يسعى لإطلاق مشروع قومى عملاق أو أكثر لكى يميز به بدء المرحلة الجديدة ويحشد التأييد الشعبى ويستحضر من خلاله فكرة إعادة بناء الدولة على أنقاض ما كان موجودا من قبل.
على الجانب المقابل فإن إصلاح وتطوير الخدمات والمرافق العامة القائمة، وتجديد شبكات الصرف الصحى والمدارس والوحدات الصحية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها، وتطوير المؤسسات والمصالح الحكومية التى يتعامل معها المواطنون كل يوم، برغم أنها أكثر ما يؤثر فى حياة الناس بشكل مباشر وبدورها تساعد على تحفيز الاقتصاد، فإنها لا تحظى بالقدر ذاته من الاهتمام الرسمى والإعلامى لأنها إصلاحات بطبيعتها تدريجية وبطيئة وتحتاج لسنوات من العمل التراكمى لكى تؤتى نتائج ملموسة، ولذلك فإننى أطلق عليها وصف «المشروعات القومية الصغرى» ليس لعدم أهميتها، بل لإنها تتطلب عملا دءوبا وصبرا فى إصلاح آلاف الوحدات الخدمية ومراجعة عشرات القوانين واللوائح وبذل جهد فى كل قرية وكل مركز وكل حى سكنى، دون أن تحقق مكاسب سياسية سريعة أو تصاحبها احتفالات كبرى أو اهتمام اعلامى على نحو ما تجلبه المشروعات القومية العملاقة.
هذا لا يعنى أن هناك اختيارا سليما بين هذا الاتجاه أو ذاك بشكل مطلق، فليس كل مشروع قومى جديد مجرد مكسب إعلامى، ولا كل نظام قديم قابل للإصلاح أصلا. ولكن هناك توازنا مطلوبا بين إطلاق المزيد من المشروعات القومية الكبرى وبين العمل على تحسين وصيانة وتطوير الخدمات العامة القديمة، خصوصا فى ظل الموارد المحدودة والعجز فى الموازنة العامة، بما يجعل الحاجة ماسة لحسن اختيار الأولويات التى تحقق العائد الأكبر اقتصاديا واجتماعيا.
من هذا المنظور يجب التوقف والتساؤل حول أولويات الإنفاق الراهنة: لماذا الاتجاه لبناء عاصمة جديدة بدلا من توجيه ذات الموارد لتطوير الأحياء العشوائية والقرى المحرومة من الخدمات؟ لماذا قطار فائق السرعة إذا كان من الممكن تحسين وتطوير شبكة القطارات متوسطة السرعة التى تخدم ملايين المواطنين؟ لماذا استصلاح ملايين الأفدنة فى ظل موارد مائية متناقصة إذا كان من الممكن زيادة كفاءة الأرض القديمة عن طريق تطوير شبكة الرى وتحسين التركيب المحصولى؟
قد تكون هناك إجابات مقنعة للأسئلة السابقة، ولكن عدم إتاحة المعلومات الكافية يجعل الأسئلة مشروعة والتوجس فى محله. هناك نقص فى المعلومات حول أولويات المشروعات، وكيفية تمويلها، ودراسات الجدوى التى سبقتها، وعائدها الاقتصادى والاجتماعى، وأثرها على توزيع الدخل. يضاف إلى ذلك أنه فى غياب برلمان، ومجالس محلية، وفى غياب تشاور بين الدولة وبين النقابات والجمعيات والاحزاب وسائر قوى المجتمع، فإن تحديد أولويات الإنفاق بين المشروعات القومية الكبرى والصغرى يكون بيد الحكومة وحدها، دون مساءلة أو مراجعة أو حتى مشاركة فى الاختيار، وهذا أسلوب عفا عليه الزمن فى اتخاذ القرارات، حيث تكون التنمية الاقتصادية والمشروعات الكبرى هبة من الحاكم لشعبه بينما العالم كله يعتمد منطق المشاركة واستطلاع الرأى والتعرف على الأولويات التى تهم الناس قبل اتخاذ قرارات قد تكلف المليارات دون طائل.
لا المشروعات الكبرى فى حد ذاتها مطلوبة فى كل الأحوال ولا إصلاح كل ما هو قديم ممكن، الطريقان مطلوبان لتحقيق التنمية الاقتصادية. ولكن ما نحتاجه هو آليات واضحة لنشر المعلومات وللتشاور واستطلاع رأى الناس ــ سواء فى وجود برلمان إو بدونه ــ كما نحتاج بعد ذلك لتقييم الأثر الاقتصادى والاجتماعى لهذه المشروعات. بغير ذلك فإن الفجوة ستظل تتسع بين المشروعات القومية الكبرى التى يحتفى بها الاعلام وتقام لها الاحتفالات الكبرى وبين الواقع الذى يصطدم به المواطن كلما تعامل مع مستوصف او مدرسة أو خدمة عامة.