ألغام عودة مصر للعرب - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألغام عودة مصر للعرب

نشر فى : الثلاثاء 17 يوليه 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 17 يوليه 2012 - 8:00 ص

حين أعادت الثورة مصر إلى المصريين، فإن ذلك بدا تمهيدا لعودة مصر إلى العرب، الأمر الذى من شأنه إذا استقام واستقر أن يحدث تحولا استراتيجيا كبيرا فى خرائط الإقليم.

 

(1)

 

لا مفر من الاعتراف بأن مصر العائدة تعانى من التشوُّه والتكبيل، ليس ذلك فحسب ولكن العالم المحيط الذى خرجت منه صار مختلفا كثيرا عن العالم الذى عادت إليه. فقد أنهكتها وقزمتها سنوات الاستبداد والعزلة. الكل يعرف ما فعله الاستبداد بمصر، لكن العزلة هى التى تهمنا فى سياق الخارج الذى نحن بصدده. وكنت قد أشرت قبلا إلى أن عزلة مصر وانحسار دورها فى العالم العربى بدأ مع توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل فى عام 1979. ولم تكن تلك مجرد مصادفة، لأن الاتفاقية لم تكن إعلانا عن مغادرة الصف العربى والاصطفاف مع الولايات المتحدة وإسرائيل فحسب، ولكنها كانت أيضا انصياعات للإرادة الأمريكية الداعية إلى انكفاء مصر على ذاتها والتخلى عن دورها فى العالم العربى بل وعن ارتباطها بالقضية الفلسطينية. وليس ذلك مجرد استنتاج أو استقراء للأحداث، ولكنها معلومات صرح بها الذين تابعوا محادثات وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر مع الرئيس الأسبق أنور السادات فى أسوان (المشير عبدالغنى الجمسى والأستاذ محمد حسنين هكيل). وكان الدكتور جمال حمدان قد أشار إلى هذا المعنى فى الجزء الثانى من مؤلفه «شخصية مصر» حين قال ما نصه إن «عزلة مصر كانت دائما نتيجة لارتباطها بالغرب».

 

مصر العائدة تواجه تحديات استعادة العافية فى الداخل التى سبق الحديث عنها. لكنها تواجه تحديات مماثلة فى سياستها الخارجية، التى تتمثل فى استقلال قرارها السياسى، وفك ارتباطها بالاستراتيجية الأمريكية وبالتنسيق الأمنى مع إسرائيل.

 

العالم المحيط الذى تعود إليه مصر تغير بدوره. فقد سقط الظهير السوفياتى وانفردت الولايات المتحدة بإدارة العالم. لكنها مع ذلك تعانى من الضعف النسبى، هى وبقية الدول الأوروبية، جراء الأزمة الاقتصادية التى قصمت ظهر الجميع، وفى المنطقة المحيطة. فقد أصبحت إيران وتركيا أهم لاعبين سياسيين فى الشرق الأوسط، أما أفريقيا فقد خرجت منها مصر بدورها ثم خاصمتها بعد محاولة اغتيال الرئيس السابق حسنى مبارك حين ذهب لحضور القمة الأفريقية فى أديس أبابا عام 1995.

 

العالم العربى تغير بدوره كثيرا خلال سنوات الفراغ التى غابت فيها مصر واستقالت من موقع القيادة. فقد بسطت الهيمنة الأمريكية سلطانها عليه، حتى أصبحت واشنطن صاحبة القرار فى أهم قراراته السياسية. وفى غياب مصر أصبحت المملكة السعودية صاحبة الكلمة الأولى فى الجامعة العربية. وبرز الدور القطرى فى بعض الساحات. ولاحظنا حضورا لدولة الإمارات فى ساحات أخرى، فى حين غرقت العراق فى مشاكلها الداخلية وكذلك سوريا واليمن. أما السودان فقد انشطر نصفين بانفصال جنوبه. أما دول الشمال الأفريقى فلم تحدث فيها تحولات جوهرية باستثناء الثورتين التونسية والليبية.

 

(2)

 

لا تستطيع مصر أن تستعيد موقعها فى العالم العربى وفى الإقليم برمته إلا إذا استعادت قوامها وكرامتها. واستعادة القوام مرهونة باستقرار أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية. واستعادة الكرامة مرهونة باستقلال إرادتها، وتخليها عن التعهيدات التى قيدتها وربطتها بالذين لا يريدون لها أو للعرب خيرا. وللدكتور جمال حمدان تشخيص جارح فى هذا الصدد، قال فيه إن هؤلاء لا يريدون لمصر دور القيادة، ولكنهم يفضلون استتباعها لتقوم بدور «القوادة»!

 

إذا قدمت مصر النموذج الذى يشرفها أولاً. فإن العالم العربى يتوقع منها سياسة رشيدة تتحرى مصالح الأمة، وحضورا فاعلا فى سياسات الإقليم، واحتراما للأشقاء يطمئنهم ويحول دون التدخل فى شئونهم من أى باب. إلا أن الصورة ليست بذات الدرجة من الوضوح فى بعض الدوائر العربية. ذلك التى من متغيرات الإقليم التى شهدتها المنطقة خلال الثلاثين سنة الماضية، إن الأشقاء الصغار كبروا وصاروا أكثر فتوة وثراء. ثم إنهم انخرطوا خلال تلك الفترة فى التحالفات وشبكات المصالح الإقليمية والدولية، الأمر الذى أحدث خللا فى موازين القوة بالعالم العربى. وفى ظل ذلك الخلل أصبح الدور المصرى غير مرحب به لدى البعض، ومحل منازعة من جانب البعض الآخر.

 

فى هذا الصدد وقعت على مقالة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية (فى ٢/ ٧) لأحد الأكاديميين السعوديين، الأستاذ عبدالله ناصر العتيبى، كان عنوانها: «ماذا يريد الخليجيون من مرسى الإخوان» (الرئىس المصرى المنتخب). تحدث فيها عن أربعة ملفات اعتبرها رئيسية يطلب الخليجيون أن تحدد مصر موقفها منها هى:

 

● ملف العلاقات مع إيران، حيث لا يريد الخليجيون أن تكون مصر عونا لإيران عليهم.

 

● الملف الثانى يتمثل فى عدم التدخل الإخوانى فى الشئون الداخلية لدول الخليج.

 

● ملف العلاقات «التركية ـ الإخوانية». فالخليجيون يريدون أن يطمئنوا ــ والكلام له ــ إلى عدم تلاقى الرغبة فى إحياء الخلافة العثمانية مع الهوى الإخوانى. وذلك يتطلب وجود ضمانات تحترم وجود وبقاء الكيانات الموجودة على الخريطة العربية حاليا.

 

● الملف الرابع يتمثل فى انحياز مصر لأحد طرفى النزاع فى القضية الفلسطينية، إذ ارتأى أنه لا ينبغى للتوافق الأيديولوجى الإخوانى مع حركة حماس ان يدفع السلطة فى مصر إلى إقصاء حركة حماس من المشهد الفلسطينى.

 

أدرى أن صاحب المقال ليس مسئولا فى الدولة، وأنه يعبر عن اجتهاده الخاص الذى لا يلزم أحدا غيره، لكننى أزعم أنه يعبر عن نمط فى التفكير يسود بعض الدوائر الخليجية، التى أصبحت ترى أن بمقدورها أن توجه «النصائح» للشقيقة الكبرى أو تتحدث عن شروط لإقامة علاقات إيجابية مع مصر بعد الثورة. ومن الواضح أن هذه المطالبات تندرج ضمن الهواجس والمخاوف المثارة من صعود حركة الإخوان ووصول أحد أعضائها إلى منصب رئاسة الجمهورية.

 

(3)

 

النقطة الوحيدة التى تستحق أن تؤخذ على محمل الجد فيما سبق، هى تلك التى تتعلق بعلاقة مصر بإيران، التى يبدو أنها تحولت إلى خط أحمر غير مسموح لمصر بأن تقترب منه فضلا عن أن تتجاوزه. أما الملفات الثلاثة الأخرى فما يستحق أن يعتبر منها هو الدعوة إلى عدم التدخل فى الشئون الداخلية الخليجية. أما مسألة إحياء الخلافة العثمانية فهى أقرب إلى النكتة منها إلى أى شىء آخر، لأن هذا الموضوع ليس مطروحا فى تركيا أصلا، إلا فى حدود المنابر الإعلامية المعارضة التى دأبت على الغمز والتشهير بحكومة حزب العدالة والتنمية، إضافة إلى أنها من الدعايات التى تستهدف التخويف من الانفتاح التركى على الفضاء العربى، الذى هو اقتصادى بالدرجة الأولى. ليست بعيدة عن النكتة أيضا مطالبة مصر بالحياد فى الملف الفلسطينى، الذى يتصور الكاتب المحترم أنه موضوع ايديولوجى، فى حين أنه وثيق الصلة بأمن مصر والتزامها القومى، الذى تقدره السياسة المصرية فى ضوء حسابات المصلحة العليا للبلد والأمة العربية.

 

رغم أن فتح ملف إيران بكامله ربما كان مبكرا فى أولويات السياسة الخارجية المصرية، إلا أننى استغرب أن يفزع بعض العرب لإقامة علاقات مصرية مع إيران، فى حين لا يزعجهم أن يتم التطبيع بين مصر وإسرائيل. كما أننى استشعر خجلا من أن تكون لكل دول العالم علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران باستثناء ثلاث دول هى: الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ومصر. (المملكة المغربية لديها مشاكل مع طهران ولم تقطع العلاقات معها). استغرب أيضا أن تقيم كل دول الخليج علاقات دبلوماسية واقتصادية وطبيعية مع إيران، وتكون التجارة فى أعلى معدلاتها بين الطرفين (حجم التبادل التجارى مع إيران يتراوح بين 11 و13 مليار دولار) ــ يحدث ذلك مع الخليج لكنه يستكثر ويستنكر إذا حدث مع مصر.

 

أما ما يثير الدهشة حقا هو ذلك الادعاء بأن أية علاقات تقيمها مصر مع طهران لابد أن تكون عونا لإيران على الخليج، وهو كلام معيب لا يصح أن يقال بحق دولة مثل مصر، التى تدرك جيدا أن انتماءها العربى والوطنى مقدم على أى انتماء آخر.

 

فى هذا السياق، لا مفر من الاعتراف بأن دوائر عربية عدة لم تسلم من التشوه الذى أصاب البعض فى مصر، ممن أقنعتهم التعبئة الإعلامية الماكرة بأن الأعداء ثلاثة هم إيران وحزب الله وحماس، أما إسرائيل فهى خارج القائمة. ومن ثم علينا أن نقتتل فيما بيننا ولها أن تقف متفرجة على ما أصابنا من جنون وبلاهة.

 

ما أفهمه أن إقامة العلاقات بين الدول لا تعنى أن ثمة اتفاقا بينها فى القضايا السياسية، وفى حالة مصر وإيران فإننى لا أشك فى أن العلاقات السوية بين البلدين يمكن أن تكون تأمينا لدول الخليج ومفتاحا لحل خلافاتها أو هواجسها إزاء إيران. إلا أننى أخشى أن يكون أمن الخليج مجرد ورقة تستخدم للضغط على إيران ومحاولة إسقاط نظامها، لأن المشكلة الحقيقية ليست بين طهران ودول الخليج، ولكنها بينها وبين الولايات المتحدة وإسرائيل. وللأسف فإن العالم العربى بأسره يستخدم كعنصر ضغط فى ذلك الصراع، الذى ليس للعرب فيه ناقة ولا جمل.

 

(4)

 

إحدى الخلاصات المهمة التى ينبغى الخروج من فتح ملف السياسة الخارجية لمصر ما بعد الثورة أنه إذا كانت عودة الروح إلى مصر الحقيقية إلى شعبها غير مرحب بها من جانب القوى الدولية وبعض قوى الإقليم، فإن عودة مصر العربية لابد أن تكون محل رفض ومقاومة. ليس لأنها ستسعى بالضرورة إلى خوض الصراع ضد تلك الدول، ولكن ببساطة لأن تلك العودة ستوقظ الأمة بأسرها، الأمر الذى يفتح الباب لنهوضها وينهى عصر هيمنة واستعلاء الذين تغولوا وتمكنوا وعربدوا فى داخل مصر وخارجها طوال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية.

 

إزاء ذلك فلابد أن نتوقع من تلك القوى دفاعا عن مصالحها، لا يتحقق إلا بتحجيم مصر وحصارها لكى تعود إلى عزلتها وضعفها. وهذه هى الجولة التى ينبغى أن تكسبها مصر وهى تسعى إلى ترتيب أوضاعها فى الداخل.

 

إن العقلية الاستعمارية التقليدية تعتبر أن بلدا فى أهمية مصر له ثراؤه المشهود بأمر الجغرافيا وخبرة التاريخ لا يمكن أن يترك مستقلا. وهو ما أفاض فيه الدكتور جمال حمدان فى كتابه الذى استشهد فيه بآراء السياسيين الغربيين. لكن ذلك ليس قدرا مكتوبا، وانما هو جزء من التحدى الذى على مصر أن تواجهه وهى تدافع عن كبريائها واستقلالها. هم لا يريدون حقا لكن الشعب يريد. وحينئذ لابد أن يستجيب القدر.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.