فى العصر الذى نعيش فيه هناك علاقة وطيدة بين العلم والتكنولوجيا والمال، إنهم أضلاع المثلث الذى يجعل الحياة أكثر رفاهية ويجعل الحروب أكثر دموية فى نفس الوقت، فما هى العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والمال؟ وكيف يمكن لرجال العلم أن يتحركوا فى هذا المثلث؟
كنت فى مؤتمر عن أحدث الأبحاث فى موضوع أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة (High Performance Computing) وقال أحد الباحثين جملة أعتقد أنها تلخص الموضوع ببراعة: البحث العلمى هو تحويل المال إلى علم، أما التكنولوجيا فهى تحويل العلم إلى مال (عن طريق ريادة الأعمال طبعاً)، لنأخذ هذه الجملة ونحللها.
لتقوم بالبحث العلمى أنت تحتاج إلى المال، إذا كان البحث العلمى فى العلوم التطبيقية فأنت تحتاج لشراء أجهزة و تحتاج إلى تعيين مساعدين و فنيين ... إلخ و تحتاج تمويل للسفر للمؤتمرات لتقديم عملك و مناقشة الباحثين الآخرين، و فى كل الأحوال و أى كان نوع العلوم التى تعمل بها فأنت تحتاج تمويل كي تستطيع أن تعيش (أنت تريد مرتب) و إلا كان عليك العمل فى وظيفة أخرى لتوفى إلتزماتك المادية و إذا تبقى وقت تعمل فى بحثك العلمى و هذا كان ما يحدث فى القديم عندما لم يكن العلماء متفرغين للعلم و لم يكن العلم فى التعقيد الذى هو عليه اليوم، أما الأن فالعلم معقد و المنافسة شديدة و التفرغ مطلوب... و لكنك قد تحصل على مرتبك عن طريق التدريس فى الجامعة و هذا يساعد أبحاثك كما أشرنا فى مقالات سابقة و يساعد على المعيشة و لكنه لا يساعد على شراء أجهزة و السفر للمؤتمرات إلخ... هذا ما ناحية العلم.
من ناحية المال: من هو الممول و لماذا سيمول هذا العالم أو ذاك؟ أنت كعالم تعمل إما فى مركز بحثى تابع لشركة أو جهة حكومية أو تعمل فى جامعة أو تعمل فى مركز بحثى مستقل (مثل D. E. Shaw labs فى أمريكا)، إذا كنت فى مركز بحثى يتبع جهة حكومية أو شركة فالمسألة محسومة لأن التمويل سيأتى من الجهة الحكومية أو من الشركة و لكنك ستكون محكوم فى عملك بإتجاهات الشركة أو الجهة الحكومية مع وجود بعض حرية الحركة إذا أقنعت الشركة أو الجهة الحكومية بأهمية بحثك، هنا الشركة تريد أبحاثاً يمكن تحويلها إلى تكنولوجيا و من ثم إلى منتجات تجلب الربح، و هذا ينطبق على الجهات الحكومية و يمكن أن نضيف لها المنتجات الحربية، أما إذا كنت فى جامعة أو مركز بحثى مستقل فلك حرية (نسبية طبعاً) فى إختيار من يمولك إذا استطعت إقناعه، إذا كنت تعمل أبحاثاً تطبيقية يمكن أن تتحول إلى تكنولوجيا (و قد ناقشنا أنواع الأبحاث و المشكلات العلمية فى مقال سابق) فيمكنك أن تختار الشركات التى تهتم بهذه النوعية من التكنولوجيا، أما إذا كنت تريد أن تعمل فى أبحاث مستقبلية قد لا تتحول إلى منتجات قبل عشرات السنين فأنت تريد تمويل من جهات مثل أكاديميات البحث العلمى (فى أمريكا مثلاً عندهم المؤسسة الوطنية للعلوم أو National Science Foundation ... أو الجمعية الملكية Royal Society فى بريطانيا) .. و فى كل الأحول يجب عليك كعالم أنت تقنع هؤلاء بتمويل أبحاثك، و هذا معناه أن تكون عندك بجانب المعرفة العلمية قدرة على الإقناع و فنون التخاطب و الكتابة، فلا تترفع عن تعلم هذه القدرات إذا كنت تريد تمويل أبحاثك بالإضافة إلى استخدام شبكة معارفك و لكن هذه قضية أخرى تصلح لمقال مستقل قد نناقشها فى المستقبل.
ما العلاقة بين العلم و التكنولوجيا؟ قد تظن لأول وهلة أن العلم يأتى أولاً ثم تأتى التكنولوجيا كتطبيق لها
وهذا صحيح فى أغلب الأحيان خاصة فى عصرنا هذا، و لكن الأمر لم يكن كذلك تماماً فى القديم، ففى أوقات كثيرة يأتى التطبيق عن طريق التجربة و الخطأ أولاً ثم تأتى النظرية العلمية لثبت صحة التطبيق، فمثلاً الفيلسوف و الرياضى اليونانى العظيم فيثاغورس (صاحب النظرية الهندسية الشهيرة) لفتت نظره الطريقة البارعة التى استخدمها المصريون القدماء للمحافظة على إتزان حوائط الأهرامات (كان هناك الكثير من الأهرامات آنذاك) و قد ساعده ذلك على الوصول لنظريته، فالتطبيق سبق النظرية، الحضارة الرومانية تركت آثاراً كثيرة لمخترعات و أجهزة حربية و سلمية مع أنها لم تبد أية إهتمامات بالعلوم النظرية، كان ذلك نتيجة براعة فى البناء و التجربة و الخطأ مع ذكاء فطرى كبير ... بل أن التكنولوجيا قد تنشأ من علم منقوص، فمثلاً عندما إخترع ألكسندر جرهام بل التليفون لم تكن بعد نظريات التشويش و كيفية التغلب عليها و كيفية تنقية الصوت من الشوشورة و معالجة الإشارات قد ظهرت بعد بالمستوى الحالى!
لكن فى عصرنا هذا و مع زيادة تعقيد العلوم و التكنولوجيا أصبح العلم هو القاطرة التى تجر وراءها التكنولوجيا، طريقة "جربتها و إشتغلت" لم تعد تنفع ما لم تكن تعتمد على نظرية علمية و القيام بتجربة لإثبات نظرية ما قد تقودك إلى نظرية جديدة و لكن هذه قصة أخرى.
لكل الباحثين فى مصر أقول: حاول تمويل أبحاثك فهناك مصادر تمويل فى مصر من مراكز حكومية و شركات خاصة و لكن عليك تطويع بحثك لكى يفيدهم، فعندما تقدم طلب لتمويل أبحاثك لشركة ما يجب أن تكون عندك إجابة عن: ماذا سيستفيدون من هذا البحث فى حالة نجاحه؟ الخطأ الذى يقع فيه الكثيرون عند تقديم طلب تمويل أبحاثهم هو أنهم يحاولون فقط إقناع الشركة ببراعتهم و عبقرية البحث المزمع عمله
و ليس بكيفية استفادة الشركة من هذا البحث، هذا يتطلب منك بعض الخيال فعمل بحث كى يتحول لمنتج لشركة فى مصر و فى نفس الوقت إلى بحث يُنشر فى مجلة علمية ليس بالشئ السهل!
لمراكز تمويل الأبحاث فى مصر (مثل أكاديمية البحث العلمى و هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات أو ITIDA ... و غيرهما من المؤسسات) أقول: تمويل المشروعات التى تنمى البنية التحتية و المنتجات التى تنمى الإقتصاد المحلى شئ مهم جداً و تمويل المشروعات التى تنتج أبحاثاً علمية و براءات الإختراعات مهمة أيضاً لتحسين صورة مصر فى المجتمع العلمى العالمى وهذا له فائدة جمة.
لشركات القطاع الخاص أقول: عندكم علماء شباب يبحثون عن فرصة فأعطوها لهم و سيكون ذلك مكسباً للجميع (win-win situation)!