«النار العاتية» فى أبوسمبل! - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الإثنين 26 أغسطس 2024 7:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«النار العاتية» فى أبوسمبل!

نشر فى : الثلاثاء 16 يوليه 2024 - 6:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 يوليه 2024 - 6:37 م

هذه هى المرة الثالثة التى أزور فيها معبد «أبوسمبل» على مشارف تخومنا مع السودان الشقيق، وعند فم مفيض توشكى بالضفة الغربية لبحيرة ناصر أو «بحيرة النوبة»، كما يفضل البعض تسميتها.

أبوسمبل موقع فريد فى جغرافية وآثار مصر، يقع فى مكان جيولوجى وأثرى لا نظير له.

نحن هنا عند بوابات النيل إلى السودان، وعند دروب الصحراء القديمة إلى واحة سليمة والواحات الخارجة وإلى درب الأربعين. كما أننا من وراء هذه الدروب نستطيع إكمال السفر على خطى الأقدمين إلى الجلف الكبير والعوينات.

يخلد الموقع جهود الملك رمسيس الثانى سواء فى الحرب أو السلم، ويترك لنا ثبتا فى تماثيل ضخمة مدهشة للآلهة الكبرى، بل لم يتردد المهندسون آنئذٍ فى تصوير رمسيس بأحجام ضخمة لا نظير لها، بل دسه بين الآلهة فى دلالة على عبادة الذات التى وصلت إليها مصر فى عهد رمسيس الثانى المفتون بانتصاراته وفتوحاته خلال حكمه الذى تجاوز 65 سنة (من 1279 حتى 1213 ق.م).

زيارتى هذه المرة مدفوعة ببحث فريد أعده عالم الآثار المصرى د.هانى رشوان من جامعة برمنجهام فى المملكة المتحدة. البحث المؤلف من 90 صفحة نشرته الجامعة الأمريكية فى بيروت الشهر الماضى .

يحمل البحث عنوان «النار العاتية التى ذاقت من طعم وهج اللهيب»، وهو بحث متعمق فى الأدب المصرى القديم، ويقدم للمرة الأولى ترجمة من الهيروغليفية إلى العربية فى وقت بالغة الأهمية للجغرافيا السياسية التاريخية المصرية يوثق فيه رمسيس الثانى ما اعتبره انتصارًا كاسحًا فى المعركة الشهيرة «قادش» التى دارت رحاها فى بلاد الشام زمن الإمبراطورية المصرية القديمة فى صراعها ضد إمبراطورية خيتا فى الأناضول فى تركيا حاليًا.

يستهل د.رشوان بحثه بلفت انتباهنا إلى اتجاه مغاير فى دراسة الأدب المصرى القديم، وهو ضرورة التعمق فى التجليات البلاغية دون الانسياق وراء بعض المدارس الأوروبية التى لا ترى فى هذه النصوص سوى وسائل من الدعاية السياسية.

لابد أنك زرت معبد رمسيس الثانى أو رأيته فى التليفزيون وربما رأيت فى هذا الصرح التذكارى معبدين: الكبير ومخصص لرمسيس وفتوحاته ومعركة قادش وقدس الأقداس الذى تتعامد فيه الشمس على وجهه، والمعبد الثانى الأصغر نسبيًا والمهدى لزوجته «نفرتارى».

استفتح الباحث عمله بمدخل عن اللغة الهيروغليفية وبنيتها بشكل مبسط يقربنا إليها ويحببنا فيها ثم يناقش «فاقد الترجمة»، وهى المشكلة الشهيرة المرافقة للنقل من لغة إلى أخرى.

يخصص د. رشوان الشطر الأكبر من مجهوده لترجمة النص وعرض البدائل المختلفة للمعانى والعبارات قبل أن يدخل بنا إلى مناقشة ما يمكن أن تقدمه مناهج البلاغة العربية التقليدية للأدب المصرى القديم.

مضمون الأنشودة تمجيد لرمسيس الثانى باعتباره محبوب من جميع الآلهة (حور، ماعت، منثو، ست، أتوم، أمون رع، بتاح)، ولقد صبغت الأنشودة رمسيس الثانى بصفات كل هذه الآلهة وألبسته إياها فجعلته أسدًا مرعبًا جارح المخالب صاعق الزئير يحمى مصر وجنودها، بل ثورًا بقرون مدببة عظيم الجسد يسحق من يقف فى طريقه.

تكشف الأبيات الشعرية فى الأنشودة التى ترجمها د. رشوان كيف أن رمسيس الثانى «بطط أرض خيتا»، وجعلها كومة جيف تماما كما تفعل الإلهة سخمت (اللبؤة) المنتقمة حين تنزل غضبها على الأرض وباء.

هذه الصفات من عالم الحيوان تعكس لنا ثراء البيئة المصرية وقتئذٍ، وبالأحرى متأثرة بصريا ببيئة حيوانية خصبة كانت مزدهرة قبل ذلك بكثير حين كانت حركة سكان وادى النيل تتم فى أقاليم جنوبية غنية بالتنوع الحيوى.

تمضى الأنشودة فتبين كيف امتدت سطوة رمسيس الثانى (رب الأرضين) فسلب كوش سيادتها فى الجنوب وطالت وبلغت بلاد خيتا (آسيا الصغرى بتعبير اليوم) حين أصابت سهامه ألسنتهم فأخرستهم جميعًا.

تؤكد الأنشودة أنه أحضر ثوار البلاد الأجنبية أسرى إلى الأرض المحبوبة (مصر) كما جاء بعظماء تلك البلاد الأجنبية يسوقون أمامهم أطفالهم وأموالهم إلى القصر الملكى يلتمسون رحمة الملك ويتمنون عفوه.

يمضى د. رشوان يترجم الأنشودة ببلاغة ممتعة فنعرف منها كيف كانت قوة رمسيس الثانى الذى أحاط جيشه بساعديه كما يحيط بيتا بجدران صلبة فيحميهم، لقد صارت قوته وقوة جنوده نارًا امتلأت بالحشائش وحملت الرياح فوق ظهرها حتى غدت «نارًا عاتية ذاقت من طعم وهج اللهيب فأصبح كل ما يقف فى طريقها رمادًا».

البحث الرائد الذى يقدمه د. هانى رشوان لا يقف عند هذه الحدود البلاغية فقط بل يعقد مقارنة مع أنشودة مديح سنوسرت الثالث السابق عليه بأكثر من ستة قرون والذى حكم مصر من 1878 حتى 1839 ق.م.

وعلاوة على ذلك وإضافة إلى صفحات بالغة الإمتاع عن الأدب المقارن (المصرى القديم فى مقابل البلاغة العربية) أضاف د. رشوان معجمًا فى نهاية البحث يشمل كل الكلمات التى جاءت فى الأنشودة ورسمها باللغة الهيروغليفية ومقابلها باللغة العربية.

سيبقى هذا البحث - من وجهة نظرى - إضافة رائدة للدراسات البلاغية والأدبية ولكل من علم الآثار والتاريخ على السواء.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات