أصارح القارئ بأن لدى حساسية شديدة ضد اصطلاح «الإرهاب». لا أفهمه ولا أستسيغه، وأمتعض منه كلما رأيته يستخدم فى مقال أو كتاب. بل إنى إذا عرفت من عنوان كتاب أو مقال، أو فصل فى كتاب، بأن الكاتب يقبل استخدام هذه الكلمة «الإرهاب» دون أن يشكك فيها «أو على الأقل يضعها بين قوسين للإشارة إلى أنها محل نظر» فقد يثنينى هذا عن قراءة الكتاب أو المقال بالمرة.
إن لدى شعورا قويا بأنه اختراع شرير، يجرى الترويج له لأغراض شريرة، لا علاقة لها بمكافحة «الإرهاب»، بل لها علاقة وثيقة بتسهيل نوع آخر من الإرهاب، وهو ما تمارسه دولة ضد دولة أخرى، أو ما تمارسه الدولة ضد مواطنيها.
إذا كان هذا هو حالى مع كلمة «الإرهاب»، فليس غريبا أن أشعر بالضيق والغيظ الشديدين كلما كنت على وشك ركوب طائرة للسفر، فيطلب منى المرور بمختلف الإجراءات الأمنية التى يقال إن الغرض منها حماية الطائرة وركابها من «الإرهابيين».
إنى أشعر بأن هؤلاء الذين فرضوا هذه الإجراءات على المسافرين أقرب إلى ممارسة الإرهاب من أى شخص آخر، وهم على الأقل يمارسونه بالفعل، ويوميا، ضد ملايين من الأبرياء من ركاب الطائرات، وليسوا مجرد خطر يلوح به، ونادرا ما يوجد فى الواقع. وحتى عندما يزعمون أنهم قبضوا على إرهابيين حقيقيين نجد أن القصص التى يروونها عنهم نادرا ما تكون مقنعة أو مستساغة.
وأريد أن أذكر القارئ بأن هذه الإجراءات المسماة بالأمنية، والتى تمارس على راكبى الطائرات بحجة الوقاية من الإرهاب، تزداد ضراوة ووقاحة سنة بعد أخرى. بدأت بأن يطلبوا من المسافر أن يمر من خلال إطار من الصلب قادر على اكتشاف وجود أى جسم معدنى فى جيب من الجيوب، ووضع حقائب اليد على حزام متحرك يمر بجهاز للتصوير يكشف عن محتويات الحقيبة. وكم كان سخيفا أن تنطلق صفارة التحذير بأن جيب المسافر يحتوى على شىء خطير، فيطلب منه أن يعود للمرور مرة أخرى خلال نفس الإطار الممغنط، وتتكرر صفارة الإنذار ثم يظهر أن الأمر لا يزيد على وجود سلسلة مفاتيح أو بضعة نقود معدنية.
تطور الأمر فطلب من الراكب أو الراكبة أن يفتح لموظف أو موظفة حقيبته الصغيرة، فيكشف عما تحمله بداخلها. وقد تكون أشياء شخصية جدا لا يحب الرجل أو المرأة أن يطلع عليها أحد.
ثم طلب من الراكب أن يرفع ذراعيه فى الهواء ويسمح لمسئول الأمن بأن يمر بيديه على جسمه، من أعلاه إلى أسفله خوفا من أن يكون قد أخفى شيئا تحت ملابسه.
ثم طلب من الركاب أن يخلعوا الأحذية ووضعها فى صندوق من البلاستيك، ويمر الصندوق بالحذاء تحت جهاز مماثل قادر على كشف محتويات الحذاء، خوفا من أن يكون قد وضع شيئا فى النعل مما لا تستطيع العين المجردة اكتشافه، وبرر ذلك بأن حدث مرة أن وضع أحد الركاب شيئا داخل نعل الحذاء، مما يمكن أن يستخدم فى صنع متفجرات.
أضيف بعد الحذاء، المعطف أو الجاكتة التى يرتديها الراكب، ثم طلب من الراكب أن يستخرج من حقيبة اليد أى أداة حادة، مهما كان حجمها، ولو كانت مقص أظافر، إذ من يدرى، فقد يستخدم هذا المقص فى تهديد قائد الطائرة، وإجباره على أى شىء يريده الإرهابى.
بعد قليل اكتشف مكافحو الإرهاب أن زجاجة الماء التى يحملها كثير من الركاب بهدف تجنب العطش، يمكن أن تستخدم استخدامات خطيرة. إذ ظهر أن من الممكن، إذا صب الراكب كمية من الماء على بعض المواد الكيماوية أن يصنع مادة متفجرة، ويستطيع بها تفجير الطائرة بأكملها (بما فيها هو نفسه). ومن ثم صودرت كل زجاجات المياه التى قد يحملها الركاب، إذا زادت كمية الماء الموجودة بها على حد معين. وأصبح من هموم الراكب الإضافية أن يتأكد أن كمية الماء التى تحتويها زجاجته أكبر أو أصغر من المسموح به.
كم كنت أشعر بالضيق والأسف، عندما أرى أمامى رجلا مهيب الطلعة، كبير السن، يرفع ذراعيه فى الهواء ريثما يمسح موظف الأمن بيديه على أجزاء جسمه، والرجل المسكين مستكين تماما، وقد تعود على اعتبار ما يحدث له ضرورة من ضروريات الحياة. وقد سألت نفسى أكثر من مرة عن سر هذه الاستكانة الغريبة التى يبديها المسافرون إزاء هذه الإجراءات المهينة، والتى تزداد وقاحة سنة بعد أخرى.
هل السبب هو تلك الصرامة المدهشة والحزم التام اللذان يبديهما موظفو الأمن، وكأنهم يستندون فى تنفيذ هذه الإجراءات إلى قوة عليا مجهولة، تحميهم ضد أى معارض أو متمرد؟ أم أن السبب أن الإنسان بطبيعته قادر على التعود على أى شىء، إذا تكرر عددا كافيا من المرات، مهما كانت غرابته وعدم معقوليته؟ أم أن المسافرين يصدقون فعلا أن ما يخضعون له من إجراءات الغرض منه هو حمايتهم هم أنفسهم، فمن الحمق الاعتراض بل عليهم أن يشعروا بالامتنان لما يبذله مسئولو الأمن من أجل مصلحتهم؟
يساعد بالطبع على ضمان هذا الاستسلام التام من جانب الركاب، أن العملية كلها قصيرة. فالإجراءات الأمنية سرعان ما تنتهى، وتبدأ الرحلة بعد ذلك بلا منغصات، والمسافر يشاهد أمامه، على أى حال، الرجال والنساء والأطفال يخضعون كلهم لما يخضع له من تفتيش، وكلهم يبدو أنهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر، بل وأحيانا تُرى على وجوههم ابتسامة. فهل هو أفضل من هؤلاء جميعا؟ فكما هى الحال دائما، يرتاح المسافر إلى ما يرتاح إليه الفرد فى أى قطيع: «لابد أن الأمر لا غضاضة فيه، ما دام كل هؤلاء لم يجدوا فيه أى غضاضة».
قبلنا جميعا إذن أن نخضع أجسامنا وحقائبنا للتفتيش، وأن يتحسس شخص غريب أذرعتنا وسيقاننا، وأن نخلع الساعة والحزام، والحذاء والجاكتة، وأن نخرج ما لدينا من نقود معدنية، وأن نعترف بأننا نحن الذين قمنا بملء حقائبنا بأنفسنا دون مشاركة من أحد، ولم نعترض على ما يذيعه الميكروفون كل بضع دقائق، من أننا يجب ألا نترك أى حقيبة من حقائبنا، ولو للحظة واحدة بعيدة عن أنظارنا، وإلا صودرت الحقيبة مع احتمال تعرضها للإعدام. وقبلنا التنازل إلى غير رجعة عن أى شىء حاد كمقص صغير يمكن أن يستخدم فى التهديد بالقتل، وأى زجاجة ماء يمكن استخدامها فى صنع قنبلة.. إلخ
وقبلنا بكل غباوة الزعم بأن كل هذا يجرى رعاية لمصلحتنا نحن وللمحافظة على حياتنا، مع أن الأمر كله لا يمكن أن يقبله أى شخص رشيد، إذ إن كل هذا يحدث وتزداد إجراءات الأمن تشددا رغم عدم حدوث أى زيادة فى الحوادث المسماة بالإرهابية، (اللهم من جانب الدول نفسها التى تفرض هذه الإجراءات). ولا يعقل أنه إذا وضع شخص واحد مجنون مادة قابلة للانفجار فى نعل حذائه، من بين ملايين الركاب الذين يسافرون كل يوم إلى مختلف بقاع الأرض، أن يصبح كل حذاء محل شبهة، أو إذا تصادف أن أخرج رجل مختل العقل، أو فى حالة سكر شديد، مدية من جيبه وهدد بها أحد العاملين فى إحدى الطائرات، أن يعتبر كل مقص خطرا داهما يهدد سلامة الطيران.. إلخ
والمدهش أن كل قرار نتخذه فى حياتنا إنما يبنى على تقديرنا أو تخميننا لدرجة الاحتمالات للظروف المؤثرة فيه.
فى حياتنا اليومية نتعرض باستمرار لمخاطر كبيرة وصغيرة، نتجاهل معظمها لأن درجة احتمال حدوثها ضئيلة جدا. فإن لم نفعل ذلك فإن حياتنا تتحول إلى جحيم لا يطاق، وربما لم نتخذ أى قرار على الإطلاق، ولا نقوم بأى عمل. فالعواصف يمكن أن تهب فى أى وقت، فى الصيف أو الشتاء، والشجر يمكن أن يقع على رءوس بعضنا ونحن سائرون فى الطريق، والمبنى الحكومى الذى ندخله قد يكون آيلا للسقوط.. إلخ. وكذلك فى الطيران. إن هناك بالطبع احتمالا صغيرا لوقوع الطائرة بسبب خلل مفاجئ أو عاصفة غير متوقعة، ولكن هذا لم يؤد بنا إلى صرف النظر عن فكرة الطيران بأسرها، والاكتفاء بركوب السفن أو القطارات، والمشى على الأقدام.
وعلى كل حال، فالسفن والطائرات وحتى المشى، معرضة كلها لأخطار، ولكننا نتجاهلها كلها إذا كانت درجة احتمال وقوعها أقل من درجة معينة. فلماذا لا نصنع هذا مع الإرهاب؟ إن احتمال إخفاء شخص قنبلة داخل ملابسه، أو متفجرات فى حذائه، من الضآلة (بحكم قلة ما حدث من أحداث كهذه من قبل) بحيث يتعين التغاضى عنه، أو على الأقل تخفيض إجراءات الاحتياط ضده إلى أقل قدر ممكن.
بل فلنلاحظ أن الاحتمال هنا يتعلق ليس فقط بحمل متفجرات لتفجير الطائرة، أو لقتل قائد الطائرة أو الركاب، بل يتعلق أيضا بقتل المرء لنفسه. فكم يا ترى يمكن أن نصادف فى حياتنا مثل هذا الشخص، الذى يفكر ويخطط ويتخذ كل الاحتياطات اللازمة لإخفاء ما يخطط له عن الجميع، ويتظاهر بكل هذا الدهاء والخبث، حتى يخدع كل من يقابله فى مساره نحو الطائرة، كل ذلك من أجل أن يقتل نفسه فى النهاية؟
ومن أجل أى قضية بالضبط؟ ليس هناك قضية واضحة تُروى لنا عن الهدف من هذا كله، أو كيف يساهم قتل شخص لنفسه فى تحقيقها، أو كيف ساهم مفجرو الطائرات السابقون فى تحقيق هذا الهدف الذى يقال إنهم ضحوا بأنفسهم عن طيب خاطر من أجله. لا يقال لنا شىء عن الهدف سوى أن الهدف هو «الإرهاب»، والدليل الوحيد على ذلك أن الشخص الذى يقوم به هو «إرهابى»، والدليل الوحيد على أنه إرهابى أنه يقوم بأعمال «إرهابية».. وهكذا.
ما الذى منع المسئولين عن كل هذا الكلام الفارغ يا ترى من رؤية السخافة المفرطة فى كل هذه الإجراءات والاحتياطات؟
ولكن الأمر يبدو أنه لم ينته بعد، فقد قرأت أخيرا أنه بدأ فى الولايات المتحدة تطبيق إجراء جديد لتوفير مزيد من الأمان، وأكثر فاعلية فى مكافحة الإرهاب.
هذا الإجراء الجديد هو أن يعطى المسافر الخيار بين استمرار الطريقة القديمة فى التفتيش، والتى تتضمن تحسس أجزاء الجسم بأيدى المسئولين عن الأمن، أو أن يمر المسافر داخل إطار معدنى من نوع جديد، مركب فيه جهاز جديد يكشف صورة المسافر لمسئولى الأمر وهو عريان تماما (أو عارية تماما)، فيمكن لهم التقييم التام مما قد يكون ملتصقا بجسمه ومتفجرات، دون المرور بأيديهم على الجسم. للمسافر الآن الاختيار بين إجراءين: الأول يعرض جسمه لأيدى الآخرين، والثانى يكشفه عريانا أمام عيون الآخرين. فللمسافر الآن مطلق الحرية فى تفضيل إحدى الطريقتين على الأخرى، فى العبث به وتعريضه للامتهان.
فى أثناء هذا كله، لا ينقطع الحديث عن ازدهار الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.