القروض: كثير من السياسة.. قليل من الاقتصاد - سلمى حسين - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:22 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القروض: كثير من السياسة.. قليل من الاقتصاد

نشر فى : الأحد 16 سبتمبر 2012 - 8:05 ص | آخر تحديث : الأحد 16 سبتمبر 2012 - 8:05 ص

من لسعته الشُربة ينفخ فى الزبادى.. هكذا فهم مبارك لعبة السياسة المقترنة بالاقتراض الخارجى. كان ذلك فى نهاية الثمانينيات، عندما كانت مصر تعانى من ركود اقتصادى خانق ومثل غيرها الكثير من دول العالم الثالث التى تعثرت فى سداد قروضها الخارجية، كانت مصر يشق عليها سداد تلك الالتزامات. وظل الوضع مترديا على حافة الهاوية حتى عام 1990، عندما أرادت الولايات المتحدة إشراك مصر فى التحالف الدولى تحت لافتة «تحرير الكويت»، والذى كان الهدف الحقيقى منه هو إرساء قوات الدول الغربية الكبرى حول منابع النفط، لضمان تأمين احتياجاتها فى منطقة تموج بالصراعات السياسية.


فكانت ورطة مصر فى سداد قروضها الخارجية هو مدخل لإقناعها ــ أو بالأحرى الضغط عليها ــ للاشتراك فى خطوة من شأنها تقويض أمنها القومى. فماذا فعل مبارك وقتها؟

 

قبل مبارك العرض: إسقاط ثلث القروض العسكرية مع إعادة جدولة القروض الأخرى على 25 عاما، وشملت المكافأة الغربية أيضا قرضا جديدا من صندوق النقد الدولى مصحوبا بتعهد مصرى بإجراءات قاسية مثل تقليص الدعم وخفض الانفاق على التعليم والصحة وخفض الاستثمار الحكومى وبيع مصانع القطاع العام بالإضافة إلى زيادة الضرائب على محدودى الدخل. كانت مصر قد رفضت تطبيق تلك الحزمة الغاشمة من الإجراءات مرتين فى عهد السادات، كان آخرها هو فى 1978 عندما فشل السادات فى تخفيض الدعم ورفع أسعار الخبز على إثر مظاهرات شعبية جارفة (مثلما حدث فى الأردن الأسبوع الماضى). ولهذا فى بداية التسعينيات، اعتبر الصندوق مبارك بطل الإصلاح. وتوالت الشهادات الدولية بشطارة حكومة عاطف صدقى وحكمتها الاقتصادية. فهل كان ذلك فعلا كذلك؟

 

●●●

لم يتحدث الصندوق والبنك عن جانب المتضررين من برنامجهما. فقد كانت نتيجته بحسب دراسات أجرتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، هو إفقار ملايين من المصريين وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، بالإضافة إلى تفاوت توزيع الدخول بين طبقات المصريين وتآكل الطبقة الوسطى، بل وتقويض الصناعة المصرية. كما لم يحاسب الحكومة ولا نفسه على أن الاقتصاد المصرى بعد ثلاث سنوات من التقشف لم يستطع أن يحقق نموا مرتفعا ولا تشغيلا للعاطلين. وما لبث الإنجاز الوحيد للصندوق ــ وهو خفض عجز الموازنة ــ أن تآكل وبدأ العجز يعاود الارتفاع الصاروخى. فهل تعلمون من أقنع الحكومة المصرية وقتها بقبول هذا القرض؟

 

كان عراب هذا الاتفاق والمفاوض الرئيس من الجانب المصرى هو وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالى ــ العائد وقتها من وظيفته فى صندوق النقد والمنضم إلى الحكومة. المفاوضات اقتصادية بحتة حول برنامج اقتصادى لإصلاح الاقتصاد. لكن هل يمكن نزع حصول مصر على قرض الصندوق عن نسقه السياسى؟ لم يقرأ مبارك كتبا مثل «تاريخ النهب الاستعمارى لمصر» ولا «الاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية». ومع ذلك لم يستطع حتى مبارك ــ الحامى الأول لمصالح أمريكا فى الشرق الأوسط ــ تجاهل هذا السؤال. ومن هنا رفض كل إغراءات يوسف بطرس غالى عن قرض جديد من الصندوق حتى رحيله مخلوعا العام الماضى.

 

تعلم نظام مبارك بالتجربة المباشرة ــ لا بقراءة التاريخ ــ أن الدين مذلة. ومن ساعتها وضع سقفا للاقتراض الخارجى (مع ذلك بقى مقترضا ومستوردا صافيا من الدول الصناعية الكبرى ودول الخليج النفطية). أما عن تركة الديون التى ورثها وعجز عن سدادها فقد تراكمت وقت رئيسه السادات، أيضا لأسباب فيها من السياسة أكثر من الاقتصاد.

 

●●●

 

بعد أن وقعت مصر اتفاقية السلام مع اسرائيل كان يجب أن يحس المصريون «بالرخاء الموعود بعد أن انتهى زمن الحروب»، كما صور لنا السادات. لكن كان أيضا من مصلحة الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة أن تضمن ولاء مصر واستمرارها فى المعاهدة، فكان أن تم استدراجها إلى فخ المعونات والقروض الخارجية. وانهالت «المساعدات» وقتها من صناديق تابعة للسعودية وقطر والكويت والبنك والصندوق الدوليين بل ومن إيران–الشاه ومن أمريكا مباشرة. ويشرح لنا العديد من الاقتصاديين آلية عمل هذا الفخ.

 

يرصد عادل حسين فى «الاقتصاد المصرى من الاستقلال للتبعية» كيف تضاعفت القروض بعد التقارب المصرى الأمريكى فى عهد السادات، وكيف أنها وصفت زورا بقروض سهلة السداد منخفضة الأعباء. فقد استخدم الاقتصاديان الراحلان حسين ورمزى زكى معادلات حسابية توضح التكلفة الحقيقية لهذه الديون. أتوجد تكلفة شكلية وأخرى حقيقية؟ نعم لكن ليس بالمعنى الذى أشيع مؤخرا فى رفض قرض الصندوق لمصر.

 

فوفقا لجدول أعده حسين، إذا أدخلنا فى تكلفة القرض منافذ الإنفاق إلى جانب شروط السداد، فإن ديون السبعينيات تنقسم إلى سهلة وصعبة وأشد صعوبة. وهكذا بتدقيق القروض اليابانية والأوروبية لمصر كان ثلثها فقط هو ما ينطبق عليه ديونا سهلة.

 

ويثبت حسين على سبيل المثال أنه فى حالة القروض الأمريكية السلعية والزراعية، ما يقرب من 9 دولارات من كل عشرة مقترضين من أمريكا تم تخصيصها لاستيراد سلع أمريكية ــ أى أنها كانت وسيلة لزيادة مبيعات المنتجين الأمريكيين فى السوق المصرى. وهكذا، مع تدفق «المساعدات» قفزت الولايات المتحدة فى أقل من أربع سنوات إلى موقع المورد الأول للسوق المصرية.

 

●●●

 

يعلمنا التاريخ أنه مع كل محاولة لمصر أن تتبع مسارا سياسيا وتنمويا مستقلا عن القوى العالمية الكبرى، زادت عليها الضغوط من أجل إعادتها إلى الحظيرة. وفى لحظتنا هذه، لا شك أن الثورة فتحت نافذة ضوء وبراح لإعادة التفكير فى هذا النمط من تبعية القرار الاقتصادى والسياسى. وفى رأيى أن هناك هوامش من المناورة ــ اتخذتها دول صاعدة كثيرة ــ لا تجعلنا فى مواجهة عنيفة مع مصالح كبارات الحظيرة. كما أن العديد من السياسات الاقتصادية البديلة المقترحة لها ما يساندها فى الفكر الاقتصادى الرأسمالى. وعلى نقيض سهولة البدائل، معركة تنفيذها صعبة.

 

وتنبع صعوبة المعركة أولا: خارجيا، فى قوة الخصوم الاقتصادية والنفوذ الرهيب لآلتهم الدعائية. (فكم سمعنا أخبارا عن انهيار الاقتصاد المصرى طوال 18 شهرا متصلين (آخرها كان هذا الأسبوع على يد وزير المالية الحالى والذى أعلن عن عجز قياسى فى الموازنة إحباطا لمطالبات المعلمين بحقهم فى أجر عادل). ثانيا: محليا، بسبب الابتزاز الذى تمارسه الرأسمالية الاقتصادية، والمرتبطة أعمالها فى معظمها بالشركات العالمية الكبرى. تلك الطبقة من كبار المنتجين المحليين التى ترعرعت فى عهد فساد واستبداد، أمَن لهم نموهم وأرباحهم الخيالية، على حساب صغار المنتجين. وهؤلاء القلة الكبار هم ألد أعداء تلك الإجراءات الإصلاحية التى قد تؤثر فى مستوى أرباحهم على الأجل القصير. ويبقى لخوض المعركة مع هؤلاء أن يتم تقدير حجم قوتهم الاقتصادية الحقيقية (والتى اعتقد أنها أقل مما يشاع) والقطاعات التى يتحكمون فيها حتى يمكن إدارة معركة سياسية ناجحة معهم. حين تبدأ تلك المعركة يبدأ المصريون فى تذوق أهم نجاحات ثورتهم.

 

 

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات