إن الناظر إلى الأزمة المأساة السورية المستمرة منذ سنوات سبع ونيف، لا بد أن يصاب بالدوار بسبب شدة التعقيدات فى المشهد السورى من حيث تقاطع وتصادم المصالح بين مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين فى مسرح المواجهة الاستراتيجى الأهم فى الشرق الأوسط، تفاهات بالقطعة فى قضية أو فى حيز جغرافى معين من «المسرح الاستراتيجى السورى» مقابل خلافات ولو محاصرة فى أماكن أو قضايا أخرى.
فى الجنوب الغربى كان هناك تفاهم واضح روسى إسرائيلى أمريكى مع تأييد عربى لأن يعود الوضع فى الجولان كما كان منذ فك الارتباط بين سوريا وإسرائيل عام 1974 وحتى حدوث الانفجار السورى عام 2011، إمساك السلطات السورية بالوضع مع ضمانات روسية سياسية وعلى الأرض أيضا وإبعاد إيران وحلفائها بحدود المائة كم عن الجبهة.
اتفاق على منع إيران وحلفائها من الإمساك بورقة استراتيجية جد مهمة فى إطار النزاع العربى الإسرائيلى بشكل خاص والمشرق العربى بشكل عام يعزز موقع إيران ووزنها ودورها فى تلك المنطقة. مقابل ذلك وجهت روسيا رسالة حازمة وواضحة إلى إسرائيل بأن هناك خطوطا حمراء أمام الطيران الحربى الإسرائيلى فى الأجواء السورية فى إطار المواجهة مع إيران وحلفائها: عنوان الرسالة تقديم منظومة صاروخية إس 300 إلى السلطات السورية ولو بقيت بالطبع تحت إشراف موسكو لاحتواء أى تصعيد ممكن عند الضرورة. محاولة إضعاف إيران حاليا بهدف إخراجها من سوريا رغم شبه استحالة تحقيق ذلك ليس فى مصلحة موسكو فى هذه الفترة، دون استبعاد حصول خلاف مستقبلى عندما يحين وقت الانطلاق الفعلى لعملية التسوية السياسية وبالتالى لحظة تقاسم الجبنة السورية بين رؤيتين مختلفتين لتركيبة السلطة مستقبلا ولدور سوريا أو وظيفتها الإقليمية.
فى الشمال الغربى استقر تفاهم روسى تركى مع تأييد إيران، الطرف الثالث فى مسار أستانة الذى أخذ يستقر بالفعل كبديل عن مسار جنيف لإدارة وتسوية الأزمة السورية.
عنوان هذا التفاهم فك الارتباط فى إدلب آخر مسارح القتال الرئيسية فى سوريا وإخراج السلاح الثقيل والتخلص من التنظيمات الإرهابية فيما تبقى تنظيمات المعارضة المسلحة تحت إشراف تركيا. بالطبع يبقى التحدى فى كيفية تنفيذ بنود هذا الاتفاق غير السهل فى عناصره، وقد يكون هذا التفاهم الروسى التركى قد أجل بعض الوقت حرب إدلب التى إذا ما حصلت ستكون لها تداعيات خطيرة سياسيا وأمنيا وإنسانيا حسب الكثافة السكانية ووجود أكثر من مليون نازح فى هذه المنطقة. حرب استعادة إدلب ترفع عنوانها السلطات السورية ومعها إيران ويمنع انطلاقها الموقف الروسى حاليا. فى شرق الفرات يقف ثلاثى أستانة وكل من أعضائه له أولوياته ضد الدور الأمريكى فى منطقة الغاز والنفط وعلى البوابة الإيرانية الرئيسية عبر العراق نحو سوريا والبحر الأبيض المتوسط. واشنطن تلعب الورقة الكردية بالطبع تحت سقف معين هادفة بشكل أساسى إلى محاولة إقفال هذه البوابة.
عنوان آخر فى لعبة الشطرنج السورية يتمثل فى إنشاء اللجنة الدستورية الأكثر من أساسية لإطلاق عملية الحل السياسى المنشود والخلاف الروسى التركى قائم بشأن أوزان التمثيل وطبيعته فى الأضلع الثلاثة (النظام، المعارضة، والمجتمع المدنى) للجنة، فيما يبقى الخلاف الأساسى حول المعايير والضمانات المطلوبة لإطلاق المسار الدستورى ومواكبته ومن ثم آليات وضمانات تنفيذ نتائجه، مع ما يعرف بالمجموعة المصغرة، الغربية العربية، المناهضة للنظام السورى.
ثم تأتى مسألة عودة النازحين/ اللاجئين وتحاول موسكو عبر مبادرتها فى هذا الخصوص وهى المبادرة الوحيدة القائمة على الصعيد الدولى. المبادرة التى تتقاطع بقوة مع مصالح الدول المضيفة وخاصة لبنان الذى ينوء تحت عبء هذا الملف إنسانيا وأمنيا ووطنيا، نحاول إحداث فك ارتباط بين العودة والحل السياسى. وربط تمويل إعادة البناء والتأهيل بالعودة وهو ما ترفضه بشدة المجموعة المصغرة التى ستكون الرافد الرئيسى للتمويل وتعتبر هذه المجموعة أن العودة الطوعية وكذلك التمويل مرتبطان كليا بتحقيق الحل السياسى الشامل.
إنها لعبة الشطرنج السورية بين الكبار، يدفع ثمنها السوريون بشكل أساسى وثم دول الجوار إلى أن يتم التفاهم الشامل بين الكبار الدوليين والإقليميين، والذى يبدو صعبا حاليا ولو أنه غير مستحيل على المدى البعيد فى ظل الصدام الأمريكى العربى مع إيران، التفاهم حول الخطوط العامة للتسوية الشاملة فى سوريا وحول خريطة طريق للحل يتولاها ويوفر الضمانات الضرورية لها الكبار ذاتهم للمضى فى تنفيذ هذه التسوية عندما يقتنع الجميع بأهميتها على حساب استمرار الصراع حول خطفها والتفرد بها وهو أمر مستحيل.