سلسلة الجرائم الإرهابية التى وقع ضحيتها مائة و تسعة وعشرون قتيلا وأكثر من مائتى جريح فى باريس يوم الجمعة الماضى سوف يكون لها من الآثار والتداعيات العميقة وطويلة المدى ما يجعلها، فى تقديرى، نقطة تحول فارقة لمستقبل المنطقة العربية ولعلاقتها ببلدان الاتحاد الأوروبى، بما لا يقل عما كان لتفجير برجى مركز التجارة الدولى فى نيويورك عام ٢٠١١ من نتائج وخيمة وممتدة على العالم كله.
جريمة باريس سوف يكون لها هذه الآثار العميقة وبعيدة المدى ليس فقط بسبب العدد الهائل من الضحايا المدنيين الذى خلفته، وإنما لأنها عبرت عن نقلة نوعية فى المعركة بين الارهاب الملتحف بعباءة الإسلام وبين دول ومجتمعات الاتحاد الأوروبى، وذلك لعدة أسباب: لأنها نقلت المعركة إلى قلب عاصمة أوروبية كبرى، ولأنها استهدفت مواطنين عاديين وليس جيوشا وقوات نظامية، ولأن إحكام تنفيذها يتجاوز قدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص المنفردين ويلزم أن يكون وراءه تنظيم واسع الانتشار ولديه ما يكفى من الموارد والتمويل والدعم داخل الدول الأوروبية ذاتها، والأخطر من ذلك أنها جريمة قابلة للتكرار فى كل المدن والعواصم الأوروبية مهما اتخذت حكوماتها من إجراءات أمنية واحترازية.
ومع أن الوقت لا يزال مبكرا للتعرف على تداعيات هذا الحدث الجلل، إلا أن التفكير ضرورى فى القضايا الرئيسية التى قد تشهد تغييرا فى المرحلة المقبلة، وفى دور المجتمعات العربية فيما هو آت، فى الأجل القصير، لا أتصور أن يكون بمقدور الدول الأوروبية أن تستمر فى سياستها الغامضة والمضطربة التى تميزت بها طوال السنوات الماضية تجاه تنظيم داعش وروافده المختلفة وتجاه انتشار نفوذه فى العراق وسوريا وليبيا، حيث اكتفت بالإدانة والشجب لجرائم داعش، وربما الدعم الفاتر للقوى المناهضة له، ولكن مع الاستعداد التام للاعتراف بمناطق نفوذه بل وشراء النفط الذى تنتجه الآبار الواقعة تحت سيطرته. وأتوقع أن الرأى العام الأوروبى سوف يطالب بسياسات أكثر وضوحا وحسما، سواء بالمواجهة العسكرية، أو بالانسحاب التام من المشهد وترك الفرقاء يحسمون معاركهم والتعامل مع من يخرج منهم منتصرا.
كذلك فإن دول الاتحاد الأوروبى سوف تشهد بالتأكيد مراجعة شاملة لسياسات استقبال المهاجرين من الوطن العربى وإغلاق منافذ دخولهم إلى القارة الأوروبية برا وبحرا. وإذا كانت الاختلافات فى رؤى وسياسات الدول الأوروبية كانت متفاقمة بالفعل قبل الاعتداءات الإرهابية الأخيرة، فإن هذه قد تكون مناسبة لإعادة توحيد الصف الأوروبى وراء سياسات أكثر تشددا وأقل اكتراثا بالظروف الانسانية والاقتصادية التى تدفع الملايين للخروج من أوطانهم بحثا عن ملاذ آمن ومستقبل بديل.
وعلى الجانب الاقتصادى، فإن المنطقة العربية سوف تدفع ثمنا باهظا فيما كانت تتوقع استقباله من استثمارات وتدفقات مالية وصناعات وافدة لفترة من الوقت. وأما البلدان التى تمثل السياحة لديها مصدرا رئيسيا للدخل والعملة الأجنبية والتشغيل ــ ومصر بالطبع واحدة منها ــ فليس أمامها ألا أن تستعد لفترة صعبة وأن تبدأ فى وضع برامج وسياسات يمكن معها الحفاظ على العمالة المدربة والأصول السياحية ودعمها بكل الوسائل الممكنة ولا تتركها للانهيار والاهمال.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة لا نعلم بعد ماذا يكون شكلها ولا ماذا تكون تداعياتها.
ولكن هذا لا يعنى أن يقف العالم العربى مكتوف الأيدى وأن يقبل أن يكون الطرف «المفعول به» فى انتظار أن يحسم الاتحاد الأوروبى وحلفاؤه موقفهم من داعش وأعوانها. علينا أن نأخذ بزمام المبادرة بأيدينا، وندرك أن مقاومة هذا التطرف والارهاب واجبنا ومهمتنا، ولن ينجح غيرنا فى القيام به لأن سياسة قصف المواقع ودك الحصون لا تفيد إلا مع الجيوش النظامية وليس مع تنظيم سرطانى قادر على الاختفاء والمناورة والتكيف مع الظروف. علينا أيضا أن ندرك أن محاربة الارهاب ليست قضية الأنظمة الحاكمة فقط ولا جيوشها، بل قضية المجتمعات العربية بأسرها لأن فيها من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ما يجعلها أكثر تعقيدا وتشابكا من أن تحسمها القوة العسكرية أو الحلول الأمنية وحدها دون التعامل مع الظروف التى أفرزت هذا التطرف. وأخيرا، علينا أن ندرك أن الانتصار النهائى والحاسم على داعش ومن يماثلها لن يتحقق إلا بانتصار القيم والمبادئ التى تسعى هذه التنظيمات الإرهابية لهدمها ومحوها من الوجود. ولذلك فإن التمسك بالقانون والعدالة وحقوق المواطنين ورفض كل أشكال التمييز بين فئات الشعب وإقامة العدل القانونى والاجتماعى هو السبيل الوحيد لتحقيق النصر المنشود.
بمقدور الدول الأوروبية أن تغلق حدودها، وترسل حاملات طائراتها، وتقصف المدن السورية والليبية والعراقية، ولكن لن ينتصر على الارهاب سوى إرادة الشعوب العربية وإصرارها على تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين.