يعجبنى وصف الشاعر العراقى العظيم، الجواهرى، لجمال عبدالناصر بأنه كان «عظيم المجد والأخطاء». كما أحب قول أحمد فؤاد نجم عن عبدالناصر أيضا بأنه «عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت». فهكذا أرى عصر عبدالناصر: مليئا بالمجد والأخطاء، بأعمال رائعة كثيرة وأخرى فاشلة.
وقد ذكرت فى كثير من كتاباتى كلا النوعين من أعمال عبدالناصر. وفى مقال أخير لى «فى جريدة المصرى اليوم 27 نوفمبر» أشرت إلى ما أصاب المثقفين فى عهده من ظلم، وزعمت فى ذلك المقال أن المثقفين تعرضوا لظلم أقل قبل ثورة 1952، مما تعرضوا له فى عهد الاستبداد بعدها.
هذا النوع من الكلام لا يحبه الناصريون، إذ ينفرون من نسبة أى خطأ لعبدالناصر. كما أن العكس أيضا صحيح، أى أن كارهى عبدالناصر لا يحبون أن ينسب لعبدالناصر أى عمل عظيم. وفى التعليقات التى قرأتها على كتاباتى عن عهد عبدالناصر تعرضت للنقد والهجاء من جانب من وصفونى بأننى «ناصرى» كلما مدحت شيئا جيدا قام به، وكذلك تعرضت للنقد والهجاء من جانب الناصريين، كلما انتقدت سياسة من سياساته.
لم يكن غريبا إذن أن أجد فى جريدة الشروق (8/12) مقالا يرد علىّ وينفى أن يكون المثقفون قد تعرضوا للظلم فى عهد عبدالناصر، كتبه أستاذ وصديق لى (هو الدكتور محمد محمود الإمام) بعنوان «آفة الثقافة المثقفون». لم أستغرب لأننى أعرف عن الدكتور الإمام حماسه الشديد لعبدالناصر. ولكننى وجدت مقالا آخر فى اليوم التالى فى جريدة القاهرة (9/12)، يرد علىّ أيضا فيه الكاتب القدير الأستاذ صلاح عيسى، بعنوان «المثقفون بين نصف الكوب الفارغ ونصفه الملآن». الأستاذ صلاح عيسى كان هو نفسه من المثقفين الذين تعرضوا لظلم شديد فى عهد عبدالناصر، ولكنه يتعاطف بشدة أيضا مع سياسات عبدالناصر بوجه عام. ومن ثم فقد رأى أننى لم أخطئ تماما، بل رأى أننى فقط رأيت نصف الكوب الفارغ فى حكمى على معاملة عبدالناصر للمثقفين، بينما رأيت فقط نصف الكوب الملآن فى حكمى على العهد السابق عليه.
مازلت أعتقد، مع ذلك، بأن العهد السابق على ثورة 1952، أى فترة ما بين الثورتين 1919، و1952، لم يشهد فيه المثقفون من الظلم مثلما شهدوه بعد ذلك، رغم اعترافى بأن الظلم موجود فى العصرين، وكما قلت فى مقالى الذى أثار الرد من جانب الأستاذين المعلقين، «لا يستطيع أحد أن يزعم أن حياتنا الثقافية قبل 1952 كانت خالية من الظلم، فمن الذى يستطيع أن يزعم ذلك لأى بلد فى أى عصر؟» (أو كما قال المتنبى: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذاعفة فلعلة لا يظلم».
لقد ضربت مثلا واحدا للظلم فى عهد الملكية، ولكن صلاح عيسى أضاف إليه أمثلة أخرى كثيرة: ما تعرض له طه حسين من ظلم شديد بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وما تعرضت له بعض الصحف من إغلاق فى ظل حكومات الأقلية، وما تعرض له بعض كبار الكتاب من اعتقال، ومنهم العقاد ومحمد التابعى وتوفيق دياب، وكذلك رسام الكاريكاتير رخا، بتهمة العيب فى الذات الملكية.. الخ
كل هذا وأكثر منه لابد من الاعتراف به، كما أن إسباغ وصف «الديمقراطى» على عهد الملكية ينقصه الكثير من الدقة. ومع هذا فلاتزال هناك فوارق مهمة بين العهدين (ما قبل وما بعد ثورة 1952) من حيث معاملة السلطة للمثقفين. كان الممسكون بالسلطة فى عهد الملكية، هم أنفسهم من المثقفين ثقافة عالية (لا أقصد الملك نفسه وإنما أقصد الوزراء ورؤساء الحكومات، بل والرجال المحيطين بالملك نفسه والمؤثرين فى قراراته). ومن ثم كانوا أكثر معرفة وتقديرا لمعنى «حرية الفكر». كذلك كان الممسكون بالسلطة فى عهد الملكية لديهم احترام أكبر للقضاء، مما كان لدى من جاء بعدهم، ومن ثم كانت أى محاولة للتأثير فى القضاة تعتبر عملا بالغ التدنى وداعيا للاحتقار.
هل أضيف أيضا فارقا مهما قد لا يستسيغه كثيرون، ولكننى أعتقد أنه كان عاملا فى إيجاد هذا الفارق الكبير بين معاملة السلطة للمثقفين فى العهدين؟ هذا الفارق يتعلق بحلول ما يمكن تسميته «بالعصر الأمريكى» محل «العصر الأوروبى». إن العصر الأمريكى هو الذى جلب، فى رأيى، حكم الضباط إلى مصر، كما جلبه فى كثير غيرها من بلاد العالم الثالث. وقد أضعف هذا للأسف ما تمتع به المثقفون المصريون من حرية نسبية فى العهد السابق على ثورة 1952.
ولكن هناك فارقا آخر مهما بين العهدين، يفسر، ليس فقط ما حدث من تآكل فى حرية المثقفين، ولكنه يفسر أيضا ما شهدته الحياة الثقافية فى مصر، وياللعجب، من ازدهار فى الجزء الأكبر من الحقبة الناصرية. قد تبدو الظاهرة غريبة حقا، أى أن يجتمع اضطهاد عدد كبير من المثقفين الوطنيين فى عهد عبدالناصر مع ما شهدته مختلف فروع الثقافة فى عهده من ازدهار: فى الأدب (على أيدى أمثال يوسف إدريس ونعمان عاشور وألفريد فرج.. الخ) وفى الشعر، (على أيدى أمثال صلاح عبدالصبور وحجازى) وفى الموسيقى (كمال الطويل وبليغ حمدى والموجى) وفى الفنون الشعبية والمسرح والسينما والباليه وفى إعادة طبع كتب التراث والترجمة.. الخ
كل هذا الازدهار أشار إليه بحق، الدكتور الإمام والأستاذ صلاح عيسى، مما لابد من الاعتراف والإشادة به، كما يجب الاعتراف بفضل رجل مثل ثروت عكاشة الذى ساهم مساهمة جليلة فى تحقيق هذا الازدهار، وهو ضابط مثقف تولى وزارة الثقافة فى عهد عبدالناصر وفى أثناء الفترة التى جرى فيها اعتقال كثيرين من المثقفين اليساريين الوطنيين.
إن صلاح عيسى يتساءل فى نهاية مقاله عن تفسير هذه الظاهرة الغريبة: «ازدهار الإبداع وحريته فى عهد عبدالناصر الشمولى».
وأنا أتقدم بالإجابة الآتية: كان حكم عبدالناصر شموليا واستبداديا ولكنه كان أيضا حكما وطنيا. ضيّق الخناق على من يختلف معه فى الرأى ولكنه رفع مستوى الأمل. والثقافة تنهض بزيادة جرعة الحرية كما ترتفع بزيادة جرعة الأمل. إننى أذكر قولا ساخرا سمعته من كاتب يسارى مرموق، فى أثناء ممارسة عبدالناصر لتضييق الحريات ولمقاومة الاستعمار والرجعية فى نفس الوقت: «ياليت عبدالناصر يسمح لنا بأن نموت من أجله!».
كان ارتفاع مستوى الآمال فى عهد عبدالناصر ليس فقط بسبب نجاحه فى تحرير الإرادة المصرية من سيطرة الأجنبى (الذى بدأ بتأميمه قناة السويس فى 1956)، ولكن أيضا بسبب ما فتحه من أبواب الأمل أمام الطبقات التى كانت محرومة من أى مساهمة فى الحياة الاجتماعية والثقافية. وجد المثقفون والمبدعون فى الأمرين قوتين دافعتين للتعبير الصادق عن النفس، فأنتجوا أعمالا أدبية وفنية باهرة، على الرغم من تضييق الخناق على النشاط السياسى.
فى العهدين التاليين «عهدا السادات ومبارك» انخفض بشدة، وللأسف الشديد، مستوى الأمل كما أن زيادة جرعة الحريات كانت سطحية جدا ومصطنعة، بل وأقرب إلى التمثيلية. لا عجب إذن أن خبا نور الثقافة فى مصر فى عهدهما، بل كان قد بدأ يخبو فى أعقاب هزيمة 1967 أى حتى من قبل وفاة جمال عبدالناصر.
لماذا يجد الناصريون وأعداء الناصرية على السواء، من الصعب الاعتراف بهذا كله فى نفس الوقت؟ إنهم لا يريدون أن يروا الكوب إلا ملآنا كله، أو فارغا كله، بينما الحقيقة نادرا ما تكون كذلك.