لم تكد تمر سوى أيام على توليه الحكم حتى استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لطلب الجماهير بتشكيل لجنة لاقتراح تعديل المواد الدستورية التى كانت محل اعتراض كل التيارات السياسية المعارضة خلال السنوات الماضية والتى تتعلق بانتخاب رئيس الدولة وبانتخاب ممثلى الشعب فى البرلمان. والأمل كبير فى أن يتحقق هذا الجانب من التحول الديمقراطى خلال فترة وجيزة، لكى تبدأ مصر مرحلة جديدة بحق من العمل السياسى الصحى والحر. الاستعجال إذن فى هذه المرحلة ضرورى، وهو أيضا ممكن لأن المواد المقترح تعديلها تتعلق بموضوعين رئيسيين، وكانا محل نقاش وجدل طويلين خلال العامين الماضيين، ويمكن القول إن النصوص البديلة للمواد محل التعديل تكاد تكون معروفة ومتفقا عليها إلى حد كبير.
ولكن من جانب آخر، فإن توقع ذات السرعة وذات الأسلوب فى الحسم حينما يتعلق الأمر بإعداد دستور جديد لمصر توقع فى غير محله ويحمل سوء فهم لطبيعة الدستور والمواد التى يتضمنها. فثورة الشباب فى يناير لم تأت لمجرد تغيير رئيس الدولة، ولا يجب أن تكتفى بملاحقة بعض رموز الفساد، وإنما حملت فى طياتها الرغبة الكاملة فى التغيير وفى وضع قواعد وأسس جديدة للمجتمع، وهذا فى تقديرى ما يجعل وصف الثورة منطبقا عليها. وهذا التغيير الجذرى فى الأسس التى ينهض عليها المجتمع يجد مكانه القانونى فى الدستور. فالدستور ليس مجرد نصوص تتعلق بانتخاب رئيس الدولة وانتخاب أعضاء مجلسى الشعب والشورى، واختيار الحكومة وعزلها وما إلى ذلك من الأحكام التى تتعلق بشكل الدولة السياسى.
ما يجعل الدستور نصا قانونيا ذا طبيعة خاصة ويتضمن أيضا ما يمكن وصفه بالأسس والقيم والفلسفة التى ينهض عليها المجتمع، والاختيارات الكبرى التى يقوم بها المواطنون بشأن أمور جوهرية مثل دور العقيدة فى المجتمع، ومفهوم القانون وضمانات التقاضى، والحقوق والحريات العامة والخاصة، وطبيعة الملكية ووسائل حمايتها، وفلسفة العلاقات الأسرية، وعلاقة أجهزة الدولة بالمجتمع، وطبيعة الاقتصاد وأدواته، ودور الدولة فى توفير التعليم، وطبيعة حق المواطن فى الحصول على الخدمات الأساسية، وغير ذلك من القضايا الخطيرة التى لا يتناول الدستور أحكامها التفصيلية، ولكنه يضع الإطار الفلسفى والأخلاقى لاختيارات المجتمع بشأنها وللقيم والمبادئ الرئيسية التى تعبر عنها.
لذلك فإن عملية وضع دستور جديد للبلاد ليس عملية سهلة، ولا يمكن أن تكون سريعة، أو أن يتم اختزالها فى تصحيح بعض المواد أو تعديلها. الأهم من ذلك أن وضع دستور جديد يجب أن يكون مبنيا ليس على اختيار لجنة من القانونيين والخبراء الدستوريين لاقتراح وصياغة النصوص، وإنما يجب أن يشارك فيه ــ مع القانونيين ــ من هم قادرون على التعبير عن أفكار المجتمع بشأن كل تلك القضايا الأساسية، يجب أن يكون فيهم المفكرون بشكل عام، والسياسيون الذين مارسوا العمل الجماهيرى وأدركوا طبيعة الشعب واختياراته، والخبراء فى التعليم والصحة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ والفقه، ويجب أن يكون فيهم ممثلو النقابات العمالية، وممثلو أصحاب الأعمال، ومن يعبر عن قضايا الفلاحين، والشباب، والنساء، وأن يكون منهم من درس نظم الحكم المقارنة، ومن عمل فى الجمعيات الأهلية، ومن كانت له خبرة فى التربية، والثقافة، وعلم الاجتماع، وغيرهم ممن يمكنهم التعبير عن ضمير المجتمع والمواطنين بحيث يتوصل المجتمع إلى التعبير عن موقفه من القضايا الكبرى.
صحيح أن للقانونيين والخبراء الدستوريين دورا أساسيا فى هذا الموضوع، ولكن الوصول إلى أسس تنظيم مجتمع جديد بما فيه من سياسة واقتصاد وقانون وتربية وعدالة ليس موضوعا يختص به القانونيون وحدهم.
من جهة أخرى، فإن الاعتقاد بإمكان الرجوع إلى دساتير مضى عليها ثمانون أو خمسون عاما أو حتى عشرين سنة لم يعد أمرا ممكنا. فكما أن ثورة الشباب جاءت لتحطم المفاهيم التقليدية عن العمل السياسى والحزبى، وعن قدرة الجماهير على التعبئة والمطالبة بحقوقها، فإن المجتمع الذى يسعى لوضع دستور جديد يعبر عن آماله وتطلعاته يجب أن يتجاوز المفاهيم التقليدية التى حكمتنا طوال ما يقرب من قرن من الزمان لكى يأتى معبرا عن عصر جديد.
تمنياتى للجنة تعديل الدستور المختصة باقتراح تعديل الدستور بالتوفيق وبالسرعة فى أداء عملها، وتمنياتى بالتروى فى التفكير فى وضع دستور جديد للبلاد حتى لا تضيع فرصة إعادة صياغة عقد اجتماعى جديد بالمعنى الحقيقى.