عامان على الثورة.. إشكالية المصطلح - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عامان على الثورة.. إشكالية المصطلح

نشر فى : الأحد 17 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 17 فبراير 2013 - 8:00 ص

يذكر القارئ بلا شك كيف كانت مصر فى تلك الأيام قبل عامين (فبراير ٢٠١١) كان الشباب قد انتهوا للتو من «تنظيف الشوارع»، دون تعليمات من أحد، ودون حاجة إلى لافتات تنزع عن الفعل عفويته «أو صدقه»، لتضعه فى جداول السياسة ومغازلة الناخبين وحسابات «الصندوق». وكان الشباب يتسابقون بحثا عن طريق «للعطاء» بلا مقابل. وكان الكل على استعداد «لربط الأحزمة على البطون» لشراء مستقبل أبنائهم وأحفادهم. وكان الجيران أيامها يسهرون، ويتسامرون «معا» على أبواب شوارعهم، فيما عرف باللجان الشعبية، لتأمين بيوتهم، بعد ان اختفت الشرطة تماما فى تلك اللحظة الفارقة التى لم يُكتب تاريخها الصحيح بعد. ولعلنا نتذكر أنه رغم ذلك كان معدل الجريمة وقتها، خاصة المرتبطة بالعنف قد وصل تقريبا إلى الصفر، على الأقل مقارنة بهذه الأيام.

 

ويذكر القارئ بلا شك كيف كانت المشاعر وقتها. وكم عاد من مصريين كانوا عاشوا لعقود خارج وطنهم بعد أن شعروا أن الشباب أعاد اليهم ليس فقط «وطنهم» بل وشبابهم. (أعرف مصريين باعوا كل أملاكهم فى الخارج فى أسبوع واحد ليصبح قرار العودة نهائيا إلى «وطن» كانوا قد افتقدوه لسنوات طويلة). ويذكر القارئ بلا شك كيف عاد التغنى بالوطن فجأة ــ كما كان أيام عبدالحليم وأم كلثوم ــ فنا جميلا كان قد غاب عن أسماعنا أربعة عقود كاملة، فاستمعنا إلى رامى جمال «يا بلادى»، وحمزة نمرة «إنسان»، ومحمد عباس «كان لازم»، وحامد موسى «الثورة لسه فى الميدان»، وسامية جاهين «يُحكى أن»، وعلى الحجار «ملعون»، وعايدة الأيوبى «يا الميدان»، ثم رائعة أنغام «يناير»... هل تذكرون:

 

فجأة هز الدنيا صوتكو           والحياة رجعت بموتكو

 

والسنة اتسمت يناير             شيلتو عن عينا الستاير

 

درس من قلب الميدان                  للى خايف من زمان

 

عدتو ترتيب المكان                 واحنا ليكم مديونين

 

●●●

 

ربما كان فى هذا الكلام «طوباوية» أو رومانسية تحلق بعيدا عن واقعٍ بات مؤلما، ولكنها بالتأكيد ليست أعراض «النوستالجيا»، قرينة فنجان القهوة والشعر الأبيض. فالوقائع ما زالت ساخنة، والصور مازالت ماثلة فى الذاكرة، وتسجيلات «اليوتيوب» لم تُمح بعد. عامان فقط مرا على تلك «اللحظة العبقرية»، التى ــ للأسف ــ لم نعض عليها بالنواجز. أين ذهبت إذن؟ من أضاعها؟ وكيف وصلنا إلى ما وصلنا اليه؟ أو كما يقولون بالانجليزية فى مثل تلك الأحوال: What went wrong?

 

ليس هنا مقام البحث عن الأخطاء، أو عن من نعلق فى رقبته الجرس، فالتاريخ الذى لا يرحم سيتكفل بالمهمة. ثم «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». السجدة آية ٢٥

 

●●●

 

قبل أيام كنت قد دُعيت لألقى المحاضرة الافتتاحية فى مؤتمر دولى حول «الثورة بعد عامين»، نظمته جامعة القاهرة مع جامعة أدنبره. والحاصل أننى عندما تأملت العنوان لأعد محاور الحديث، كان أن استحضرت ما تعلمناه من الأكاديمية نحن القادمون من خارجها، من ضرورة أن نبدأ بتعريف المصطلحات. والمثير أننى وجدت فى هذه العملية ذاتها؛ «تعريف المصطلح» أو بالأحرى التباين بل والتناقض فى تعريف المصطلح بين أصحاب العلاقة واللاعبين الأساسيين على الساحة، التفسير الأول ربما للنقطة التى وصلنا اليها بعد عامين من «الثورة»، التى يبدو أننا لم نتفق «جميعا» على تعريف واحد لها، أو لعلنا لم نتفق أصلا على أنها كانت حقا «ثورة».

 

●●●

 

فى البدء كان العسكر.

 

فى مساء الحادى عشر من فبراير ٢٠١١ خرج السيد عمر سليمان بوجهه الذى لم يكن مُعَبِّرا قط ليعلن أن مبارك سلم مسئولية إدارة البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. ذهب مبارك إذن وبغض النظر عن التباينات فى توصيف هذا الذهاب، خروجا أم إخراجا، توافقا أم اتفاقا.. إجبارا أم امتثالا للبديل الذى لا بديل له. وأيا ما كانت التفاصيل التى اختلف الجميع فى روايتها، فالرجل «سقط» مساء ذلك اليوم الذى ردد فيه أربعة ملايين، مسلمين ومسيحيين «دعاء القنوت» خلف الشيخ محمد جبريل فى قلب «الميدان» الذى سرعان ما أصبح فى العالم كله عنوانا للثورة.

 

سقط الرجلُ إذن لتحل الأهازيجُ ليلتها محل الهتافات، والأغانى محل الشعارات.. ومن بينها بالضرورة شعار المطلب الأهم، الجامع لكل المطالب والشعارات: «الشعبُ يريدُ اسقاط النظام»، وكان طبيعيا ومنطقيا أن يصبح سؤال اليوم التالى: إن كان مبارك قد سقط، فهل سقط النظام؟

 

وكان السؤال الآخر الذى لم يلتفت له أحدٌ أبدا يومها، إن كان الرجل قد سقط استجابة لنداء شعب يريد «إسقاط النظام»، فهل الذين استلموا الأمور بقرار منه كانوا يريدون أيضا «إسقاط النظام»؟ تقول الشواهد، كما يعرف الذين اقتربوا من دوائر صنع القرار وقتها أن الإجابة لم تكن هكذا بالضبط. بل بدا للجميع أن الأمر لم يعدو رغبة فى التخلص من «هاجس التوريث» الثقيل. ثم.. «كما كنت»، كما يقول النداء العسكرى الشهير.

 

يقول أرشيف الصحف، وسجل الوقائع إن أول من دخل السجن كان صحبة جمال مبارك (أحمد عز وجماعته)، ولم يمس أحدٌ وقتها رموز الحرس القديم. كما تقول الوقائع أن زكريا عزمى ظل يذهب إلى القصر يوميا «بوصفه موظفا عموميا، لا نملك فصله تعسفيا»(!). وأن القضاء (لا غيره) هو الذى أقدم على حل الحزب الوطنى والمجالس المحلية.. الوقائع كثيرة، يكفى لتذكرها أن نعود إلى أرشيف الصحف أو نستمع إلى بعض من تولوا المسئولية أيامها. كما يكفى لقراءة دلالاتها ما أشرنا اليه فى هذا المكان من قبل من الارتباك واللا وضوح فى إدارة فترة الأشهر السبعة عشر الأهم (من الحادى عشر من فبراير ٢٠١١ وحتى الثلاثين من يونيو ٢٠١٢) والتى اتسمت رغم وفاء من الرجال بوعدهم الأساس بقدر ليس هين من تناقض فى الرؤى والأهداف، وبرغبة «مكتومة ومفهومة» بالاحتفاظ بالمكان أوالمكانة، وبسذاجة أو براءة من عسكريين لا يجيدون «ألاعيب الساسة والسياسة»، فكان أن ضاعت «البوصلة»، أو اضطرب مؤشرها أحيانا «بتجاذبات» هنا وهناك. وما أدراك حين تضيع البوصلة من جندى فى الميدان. يومها سمعنا عن ائتلافات تم تخليقها، وحوارات جرى توجيهها، وأحزاب كرتونية جرى استدعاؤها من أضابير أجهزة النظام القديم، ليمكن توظيفها «رقما زائفا» فى معادلات القوى السياسية. وما أدراك كم انتهكت براءة الشباب تلك «القوى السياسية»، بتوازناتها الزائفة، ولغتها اللزجة، ومعادلاتها القديمة.

 

●●●

 

بعد ذلك كان «الإخوان»؛ رفاق الميدان لا شك فى ذلك. ولكن الأهداف لم تكن فيما بدا متطابقة مع أهداف الرفاق. فبعد تجربة مريرة من الإقصاء لعقود، وبعد تجربتى انتخابات ٢٠٠٥ و ٢٠١٠ بدا أن الهدف الأول، الكفيل بأن يتقدم على أى هدف آخر (راجع التصريحات المنشورة) هو أن نصبح أخيرا «جماعة غير محظورة» يمكننا أن نصل إلى السلطة «عبر صناديق الاقتراع». وهو أمر «مشروع» ولا غبار عليه بلا شك. فهكذا تفعل كل الأحزاب فى الدول «المستقرة». ولكنه، بحسب تعريفات العلوم السياسية هدفٌ «إصلاحى» بامتياز، لا علاقة له «بالثورة» مفهوما أو تعريفا. كما أنه لا يتطابق مع هدف الذين خرجوا يطالبون «بإسقاط النظام»، بكل ما يعنيه ذلك من معنى. أما الهدف الثانى «الآجل» والمتمثل فى إعادة رسم خرائط المنطقة لإصلاح عوار شاب خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، فلا أظنه كان فى بال أحدٍ من الشباب الذى كان قد دعا إلى احتجاجات ٢٥ يناير، مثله مثل شعارات «الشريعة.. والهوية.. والدولة الإسلامية» التى غابت عن لافتات وهتافات أيام الثورة الثمانى عشرة.

 

هذا التباين رغم عدم وضوحه فى البداية وضح جليا فيما بدا بعد ذلك من تناقضٍ لم يكن مطلوبا «بين الميدان والبرلمان»، وفى تحديد خاطئ لأطراف الصراع. فبدلا من أن ننتبه إلى أن معركتنا «الحقيقية» هى مع «نظام» لم يسقط بعد، وسيحاول أن يعود، انجرفنا إلى معارك «وهمية / انتخابية» مع رفاق المعركة، واستهنا بعواقب استقطاب عملنا على تزكيته يوما بعد يوم. وبدلا من أن نواجه «النظام / الدولة العميقة» بالوحدة التى نجحت وحدها فى مواجهة هذا النظام فى يناير ٢٠١١، لجأنا إلى أدوات تلك الدولة العميقة ذاتها لمواجهة ما يواجهنا من تحديات، فكان طبيعيا أن لا تأتى الرياح بما تشتهى السفن.

 

●●●

 

وبعد..

 

فربما لم يقرأ هؤلاء الشباب، أو تلك المرأة التى ظهرت على الشاشة تضرب رأسها بالحذاء «لأنها انتخبت مرسى» كتاب Hobsbawm عن الثورة، كما أنهم لم يطلعوا على الكتب المؤسِّسة لمفهوم Transitional Justice ولكنها ثقافة الشعوب العريقة، تعلمنا التجارب أنها كفيلة باختصار الحكمة فى مثل شعبى أو عبارة؛ يعرفون بوجدانهم ماذا يقصدون بها. وهكذا كانت العبارة العبقرية «الشعب يريد إسقاط النظام».

 

تباينت التعريفات إذن، رغم حسن النوايا.. فتباينت التوقعات.. فمضى كلٌ فى طريق. وعندما تقاطعت الطرق، وقد كان.. كان كل ما نراه الآن.

 

ماذا فاتنا إذن أن نفعل؟ وماذا علينا الآن أن نفعل؟

 

لعل هذا يكون «اجتهاد» المقال القادم

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات