لعدة أسابيع ظل الناس يسمعون عن حركة المحافظين التى أعلن عن إجرائها منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر ولكن ظلت تتأخر وتتأجل حتى لم يعد واضحا ما إذا كان الغرض منها تغيير من لم يتمكنوا من أداء أعمالهم بالكفاءة المطلوبة، أم التغيير من أجل التغيير. وقد زاد من الغموض أن حركة المحافظين جاءت قبل الانتخابات البرلمانية بأسابيع قليلة، ودون توضيح الأسباب التى كانت وراء استبعاد المحافظين السابقين أو المعايير التى دعت لاختيار من حلوا محلهم. على أن اللافت فى الأمر كان ما تناقلته وسائل الإعلام فى الأسابيع القليلة الماضية من أن سبب التأخير فى الانتهاء من حركة المحافظين هو كثرة الاعتذارات ممن عرضت عليهم الوظيفة وعزوفهم عن ترك أعمالهم ومشاغلهم الحالية، وهو أمر غريب بالنظر إلى ما كانت وظيفة المحافظ فى الماضى تثيره من تطلعات وأحلام لكثير من الطامحين إلى السلطة. سبب هذا التغير، فى تقديرى، أنه لا يوجد فى مصر حاليا مهمة أكثر صعوبة من عمل المحافظ، ولا أقل جلبا لتقدير وشكر المجتمع، لأن المسئولية فيها بلا حدود، والأدوات محدودة للغاية، والنجاح لا أحد يشعر به لأن قياسه مستحيل.
المحافظ، وفقا لقانون الحكم المحلى، يتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية فى محافظته، ولذلك فهو يبدو للوهلة الأولى صاحب الأمر والنهى والمتحكم فى مصائر شعب المحافظة دون حدود. ولكن الواقع غير ذلك تماما. فالمحافظ لا يتحكم فى موازنة محافظته بل ما يخص الديوان العام للمحافظة فقط، أى الموظفين التابعين للمحافظة بالاضافة إلى موارد محدودة للغاية لبعض الأعمال الخيرية والعاجلة. أما ما ينفق على المحافظة بأسرها من استثمار عام وبنية تحتية فيكون بقرارات الوزارات المعنية بما فيها من مستشفيات ومدارس وطرق وكبارى وصرف صحى وغيرها. من جهة أخرى فإن المحافظة لا تمتلك أية موارد مستقلة بخلاف حصيلة بعض الرسوم والغرامات وما تخصصه لها وزارة المالية. المحافظ أيضا هو الرئيس الإدارى الأعلى للجهاز الحكومى فى المحافظة ولكنه لا يملك سلطة التعيين ولا الإشراف الفنى لأن الرئيس الفعلى لكل جهاز إدارى هو وكيل الوزارة فى مجاله، ولذلك فسلطة المحافظ تنتهى عند التفتيش على المصالح العامة وزيارتها بشكل مفاجئ وتوقيع عقوبات إدارية على من يحضر متأخرا أو يهمل فى عمله. والمحافظ محاط فى كل خطوة وكل حركة بشبكة جبارة اسمها الحكم المحلى، هى المتحكم الفعلى فى الشئون اليومية للمواطنين.
على الجانب الآخر فإن المحافظ هو الذى يحمل الوزر والمسئولية عن كل خطأ أو إهمال يقع فى محافظته. فهو المسئول عن صحة المواطنين، وعن تعليمهم، وعن نظافة الشوارع، وعن سلامة المبانى الحكومية، وعن الأمن، والمرور. هذا طبيعى، ولكن دون أدوات مالية أو تنفيذية، فلا يوجد ما يجعله قادرا على إصلاح المشكلات والعقبات والتقصير العائد لوزارات ومصالح حكومية أخرى إلا بقوة الشخصية والاتصال برئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو وزير الحكم المحلى، أو بحسن العلاقة مع الوزير المعنى.
كيف يقاس إذن أداء المحافظ إذا كان غير قادر على تحقيق فارق جذرى فى مؤشرات التعليم والصحة والخدمات العامة فى محافظته؟ الإجابة أن المحافظ يجد نفسه محل تقييم إما من كبار المسئولين والنافذين والعائلات والمصالح الكبرى فى المحافظة، وإما من الإعلام المحيط به، وكلاهما وضع خطير، وقليل من يعتمد على تقدير الناس العادية لجهد وتعب واخلاص المحافظ لأن أصواتهم لا تكون الأكثر تأثيرا فى دوائر صنع القرار بالعاصمة.
ما الحل إذن؟
فى تقديرى أنه قبل التفكير فى تغييرات جذرية وتحتاج لسنوات من العمل والتطوير القانونى والإدارى فى نظام الحكم المحلى، فإن هناك أمورا أبسط يمكن البدء بها، على رأسها أن يتضمن تعيين المحافظ من رئيس الجمهورية تكليفا له بما هو منتظر منه فى منصبه ولكن بأرقام ومستهدفات محددة وليس فقط تحت شعارات التفانى فى العمل والسهر على راحة المواطنين. كذلك فيمكن للمحافظ أن يستهل ولايته بتقديم رؤية لما ينوى القيام به بدلا من الاعتماد على أسلوب المفاجآت ورد الفعل. ويلزم كذلك أن تكون مساءلة المحافظ مرتبطة وبوضوح شديد بما هو متاح له من الموارد، لأنه لا يصح أن يفترسه الإعلام إرضاء للجمهور إذا لم تكن الموارد متوافرة والموازنات تسمح.وأخيرا فقد يكون من المفيد أن يتم تعيين المحافظ لمدة معينة ومحددة، ولو تم تجديدها فى نهايتها، لأن هذا التحديد يجعل المحافظ ملزما بوضع جدول زمنى لتحقيق ما ينوى القيام به. وفى كل الأحوال فإن حوارا جديا يجب أن يعاد طرحه حول طبيعة الحكم المحلى ومستقبل اللامركزية وما يترتب على ذلك من صلاحيات مالية وإدارية محددة للمحافظات والمحافظين، وهو موضوع كتبت عنه الدراسات والأبحاث لسنوات طويلة ولكن جرى اهمالها وتجاهلها.
الموضوع مهم ويحتاج إلى وقفة لإعادة تقييم الحكم المحلى فى مصر لأن هذا هو خط التعامل المباشر مع المواطنين، وقد يكون تعيين محافظين جدد فرصة لذلك.
•••
وبعد، فقد علمت، بعد كتابة هذا المقال، بأنباء الجريمة المروعة التى ارتكبها تنظيم داعش ومن يتبعه بحق العمال الأبرياء الذين سقطوا شهداء الواجب تجاه أسرهم وأهلهم فى رحلة البحث عن لقمة العيش فى أحلك وأقسى الظروف. هذا وقت اصطفاف وطنى دفاعا عن حق هؤلاء العمال فى الأمن والحماية والعودة الأمنة لأوطانهم، ودفاعا عن الوحدة الوطنية للشعب المصرى ورفض محاولات التفرقة بين مسلم ومسيحى، ووقت الاصطفاف أيضا لرفع الظلم الاجتماعى عن الشباب والباحثين عن فرصة عمل تغنيهم عن الشقاء والخطر الذى يتعرضون له بحثا عن مستقبل أفضل.
مع خالص التعازى لأهل الشهداء والدعاء لهم بالصبر والسلوان فى هذه المِحنة الكبرى.