أكتب هذا المقال بعد عودتى من دائرة مستديرة فى المجلس الأعلى للثقافة نظمتها لجنة الثقافة العلمية بالمجلس عن الثقافة العلمية وأهميتها وركزت على التغييرات المناخية والبصمة الكربونية. كنت زائرا (عندما وجدت إعلان الندوة على الفيسبوك) ولست متحدثا، ولكن تمت دعوتى لإلقاء كلمة سريعة والشكر موصول على تلك اللفتة الجميلة. النقطة المهمة التى بدأت بها المناقشة هى أن توصيف الثقافة عندنا دائما ما يرتبط بالأدب والفن وليس العلم، وهذا خطأ جسيم لأننا فى عصر تسيطر فيه التكنولوجيا (وهى الابنة الشرعية للعلم) على مقدرات الشعوب.
الثقافة العلمية هى جزء من السياسة العلمية للدول، لأنك إذا أردت توطين تكنولوجيا معينة أو أردت من الشعوب القيام بممارسات معينة متعلقة باستخدام المياه مثلا أو التعامل مع النفايات أو البصمة الكربونية عليك أولا بتثقيفهم علميا لأن النفس البشرية غالبا ما تكره الأوامر المباشرة ما لم تفهم مغزاها وعدوة ما تجهل.
مقال اليوم يترك الجزء (وهو الثقافة العلمية) ويتكلم عن الكل وهو السياسة العلمية للدول. السياسة العلمية تحدد ما تنفقه الدولة على البحث العلمى والتعليم وتحدد الفروع العلمية والتكنولوجية التى تهتم بها الدولة فى الوقت الراهن. كنا قد تكلمنا فى مقالين سابقين عن أهمية السياسة العلمية للدول وكيفية تحديدها خاصة للدول النامية، فلن نعيد هذا الكلام هنا، لكن سنتكلم عن العقبات التى تواجه بناء سياسة علمية فى عصرنا هذا وماذا يمكننا فعله تجاهها، وفى بعض المواضع سنثير أسئلة أكثر مما سنعطى إجابات.
...
التقدم العلمى والتكنولوجيا المتولدة منه هى حجر أساس الاقتصاد فى عصرنا هذا، والاقتصاد والسياسة صنوان فى القرن الحادى والعشرين، لهذا سياسة علمية ناجحة لها مردود كبير على اقتصاد وأمن الدول.
سياسة علمية ناجحة تأخذ فى الاعتبار عدة أشياء:
ما تستطيع الدولة إنفاقه على البحث العلمى: وهذا يعتمد على ميزانية كل دولة واقتصادها وما يستطيع القطاع الخاص المساهمة به.
فروع البحث العلمى الذى تحتاجه الدولة.
المدى الزمنى الذى تستطيع الدولة احتماله قبل أن تحصد النتائج.
التكنولوجيا التى تستطيع الحصول عليها من الدول الأخرى.
الدولة الغنية تستطيع الإنفاق على الأبحاث الأساسية التى لا تظهر نتائجها إلا بعد مدى زمنى كبير، فى حين أن الدول الأقل غنى تحتاج أبحاثا تطبيقية ذات نتائج سريعة.
النقطة الأخيرة فى القائمة أعلاه تحتاج بعض التوضيح. لا توجد دولة تبدأ من الصفر فى جميع الأبحاث، بل تبدأ من حيث انتهى الآخرون. لذلك تحتاج استقدام تكنولوجيا من دول أخرى. فى بعض الأحيان لن تعطيك تلك الدول الأخرى أحدث ما عندها، لذلك قد تحتاج إلى السرعة فى فهم تلك التكنولوجيا وتطويرها وهذا يحتاج إلى ما يسمى الهندسة العكسية (reverse engineering) أى معرفة كيف يعمل جهاز ما أو تكنولوجيا بدون أن يشرح لك مصممه ذلك، وهذا ما بدأ به الاتحاد السوفييتى آنذاك فى تصميم رقائق الكمبيوتر، فقد كان يحصل عليها من أمريكا ثم يحاول معرفة طريقة عملها حتى يتمكن من تصنيعها، هذه هى العقبة الأولى.
العقبة الثانية تتعلق باختيار التكنولوجيا التى نستقدمها. إذا كانت هناك عدة تكنولوجيات لحل نفس المشكلة (مثلاً لتحلية مياه البحر) فأى منها نستقدم؟ وهل نضمن أن هذه التكنولوجيا أفضل كفاءة من الأخرى؟ أم هى فقط أقل ثمناً؟ ماذا لو أخطأنا الاختيار؟
...
العقبة الثالثة مرتبطة بالثانية إلى حد ما، الشركات التكنولوجية الكبيرة عابرة القارات تهتم فقط بمصلحتها، لذلك ستحاول أن تبيع لك تكنولوجيتها وستحاول إغراءك بتقليل الثمن فى البداية حتى تصبح «سجينا» لتلك التكنولوجيا ولن تستطيع الهروب إلى تكنولوجيا أفضل من شركة أخرى إلا بتكاليف عالية جدا. لذلك لابد هنا من دراسة ليس فقط التكنولوجيا المقدمة من الشركة، ولكن أيضاً تاريخ الشركة وتطورها بل وعلاقاتها بالدول الأخرى.
هذه فقط بعض العقبات فى طريق بناء سياسة علمية ناجحة.
...
ماذا نحن فاعلون؟ أعتقد أننا فى مصر حاليا نحتاج سياسة علمية تنتهج الأبحاث التطبيقية ذات المردود السريع بنسبة 75% من الأبحاث مثلا وذات مردود يظهر على مدى زمنى متوسط بنسبة 25%. هذه النسبة يعاد التفكير فيها سنويا. هذه بعض الأمثلة للأبحاث التطبيقية التى تفيدنا حالياً (وهذا طبعاً رأى شخصى يحتمل المناقشة):
تحسين كفاءة الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة النظيفة
ابتكار وسائل أكثر كفاءة وفعالية لنقل وتخزين الطاقة
استحداث وسائل تقلل من تكاليف تحلية المياه المالحة
استخدام الذكاء الاصطناعى لتحديد كمية المياه والسماد التى تحتاجها الأرض الزراعية وتوقيتات الرى.
استخدام الذكاء الاصطناعى لتحديد توزيع الطاقة طبقا للكثافة السكانية واستهلاك الطاقة فى المناطق المختلفة.
استخدام الذكاء الاصطناعى لتحديد اتجاهات المرور لتقليل الاختناقات المرورية والتى بدورها تقلل من تكاليف نقل البضائع.
تقديم خدمات الحكومة الالكترونية بحيث لا يحتاج المواطن إلى الذهاب إلى أية مصلحة حكومية فى أغلب الخدمات، ويحدث ذلك بدون سماع عبارة «السيستم واقع».
هذه فقط بعض الأمثلة لكنها توضح أننا نحتاج فرق بحثية لأن كل نقطة منها تحتاج تضافر جهود الكثير من الباحثين من تخصصات مختلفة، ويجب أن يكون الهدف الأساسى هو حل المشاكل وليس النشر العلمى أو الحصول على جوائز. على المدى الطويل ستتغير تلك المعادلة بالطبع إذا نجحت الأبحاث قصيرة المدى.
هذه الأبحاث تحتاج تمويل من الدولة ومن القطاع الخاص الذى سيستفيد أيضا فى تسويق تلك التكنولوجيا الجديدة.
السياسة العلمية الناجحة هى سلاح خطير فى يد الدول.