كلنا شعرنا بصدمة عنيفة عندما سمعنا بحادثة التحرش بالنساء فى أثناء اكتظاظ الميادين بالمحتفلين بتنصيب رئيس الجمهورية الجديد (وبأحداث مماثلة قبلها وبعدها). وكان لابد أن تكثر التعليقات على ما حدث، معبرة عن عواطف الغضب والدهشة والحزن، ومقترنة أحيانا بالرغبة فى الانتقام، وباقتراح مختلف الحلول لوضع حد لهذه الظاهرة.
وأعترف للقارئ بأننى شعرت أيضا بدهشة شديدة لدى قراءتى لكثير من هذه التعليقات، سواء لما قدمته من تفسيرات لما حدث أو ما اقترحته من حلول.
هؤلاء شبان وفتيان مجرمون بلا شك، ولكن هل نسينا فجأة أنه حتى الاجرام له أسبابه الاجتماعية؟ وان إدراك هذه الأسباب من شأنه أن يدعونا للتروى الشديد قبل تحديد المسئولين الحقيقيين، وتوزيع المسئولية بين مرتكب العمل الإجرامى نفسه، وبين من خلقوا الظروف الاجتماعية والمناخ العام الذى سمح للجريمة بالوجود والتفاقم؟
سوف أبدأ بأن أروى حادثة صغيرة صادفتها منذ خمس أو ست سنوات. كنت وقتها أركب مترو الانفاق بانتظام، فى طريقى من ثكنات المعادى إلى مكان عملى بميدان التحرير. كان المترو أفضل وسيلة للانتقال فى نظرى، قبل أن يمنعنى منها ما أصبحت أجده من صعوبة فى صعود عدد كبير من السلالم (تزيد على الثلاثين) فى محطة ثكنات المعادى للعبور من رصيف إلى اخر، وعدد أكبر من السلالم (يزيد على السبعين) عند وصولى إلى محطة السادات. كنت قد بدأت استخدم هذا المترو حتى قبل أن يتحول من قطار يجرى فوق الأرض إلى مترو الانفاق. ولكننى فى السنوات الأخيرة لاحظت ظاهرة لم تكن موجودة من قبل. لاحظت صعود مجموعة من الفتية والشباب الصغار فجأة فى محطة السيدة زينب أو الملك الصالح، تتراوح أعمارهم من الخامسة عشرة والثامنة عشرة، ويرتدون ثيابا رثة للغاية، وتستطيع بسهولة ان تخمن سوء أحوالهم الاقتصادية، من ملابسهم ومن حالة ما يرتدونه من أحذية، ونوع ما يحمله بعضهم من حقائب تشبه الحقائب المدرسية. ربما كانوا عائدين من مدارسهم، ولكن الأرجح أنهم لا يذهبون إلى مدارس على الإطلاق، حتى ولو تظاهروا بذلك، إذ لا شىء فى مظهرهم أو سلوكهم يدل على أنهم يخطون عتبة أى مدرسة، أو على أن هناك فى أى مدرسة من يهمه ما إذا كانوا دخلوا الفصول أو لم يدخلوها، أو على أن أباءهم وأمهاتهم يعرفون أو يهتمون بما إذا كانوا قد ذهبوا إلى المدرسة أو لم يذهبوا...الخ. المهم هو أن هؤلاء الفتية كانوا إذا دخلوا من باب القطار، يشيعون الفزع بين الركاب بضجيجهم وحركاتهم وما قد يحملونه فى أيديهم من مساطر، إذ ينتشر بعضهم فى أول العربة وبعضهم فى آخرها، وينادى بعضهم على بعض ضاحكين بلا سبب، ويشد كل منهم أزر أصحابه ويقوى كل منهم قلوب الآخرين، فلا يبالون قيد أنملة بمشاعر الركاب، فينكمش النساء والرجال الجالسون على المقاعد فى خوف مما يمكن أن يصيبهم من هؤلاء الذين لا يبدو أن أحدا قادر على ردعهم.
هؤلاء صبية وفتيان لم يقم أحد بتربيتهم لسبب بسيط، ولكنه محزن للغاية، وهو أن مصر مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما فى حالة يرثى لها، سواء فى الاقتصاد أو التعليم، مع زيادة مستمر فى البطالة وارتفاع مستمر فى الأسعار، مما حمل الآباء والأمهات بأكثر من طاقتهم، وحمل المدرسين بمثل هذا من الأعباء، وأشاع الفوضى فى المدارس والشوارع.
لم أكن إذن استغرب كلما قرأت من حين لآخر عن الزيادة فى أعداد من يسمون بأطفال الشوارع (أولاد وبنات)، وعن شيوع استخدام الأنواع الرخيصة من المواد المخدرة التى تغيب العقل وفى الوقت نفسه تخفف من الشعور بالجوع. أما صعوبة العثور على سكن وتأخير سن الزواج فالأرجح أن هذه أمور تهم شرائح اجتماعية أعلى قليلا فى السلم الاجتماعى، إذ لا يبدو أن البحث عن سكن (من جانب الشريحة الاجتماعية التى وصفتها) أو فكرة الزواج، تخطر أصلا على أذهان أفرادها.
•••
عندما وقعت أحداث التحرش الأخيرة وشاهدت فى الصحف بعض الصور التى يظهر فيها بعض المتحرشين، ذكرتنى الصور بأولئك الفتية الذين وصفتهم حالا. لم تكن الصور واضحة حتى تبين درجة ما يرتسم على وجوههم من ضياع ولا مبالاة بمن حولهم، وكذلك فقدان أى احترام للنفس فى مجتمع لم يظهر بدوره أى نوع من المبالاة بهم، ولكننى كنت قد شاهدت تعبيرات الضياع الاستهتار التام على وجوه من رأيته منهم عن قرب.
كما كنت قد شاهدت على وجوه المنتمين إلى شرائح اجتماعية أخرى، من ركاب القطار، ما يدل على أنهم لا يبغون إلا الابتعاد عنهم، ويتمنون اللحظة التى يختفى فيها هؤلاء الصبية من الوجود.
فى التعليقات التى قرأتها فى الصحف عن حوادث التحرش قرأت كلاما من أنواع مختلفة أثارت فى نفسى ردود فعل مختلفة. من الكتاب ما أكد على ضرورة «التوعية» (فقلت لنفسى: هل هؤلاء الصبية حقا ممن يمكن توعيتهم بأى شىء على الاطلاق؟). وكتب البعض عن دور المساجد والمدارس فى وعظهم (فهل يذهب هؤلاء حقا إلى المساجد والمدارس؟). وقيل إن المسئولية الأساسية تقع على انتشار خطاب دينى يشيع الاحتقار للمرأة، وان العلاج هو فى تغيير مضمون هذا الخطاب مما يعلى من شأن المرأة (فقلت لنفسى هل هؤلاء الفتية يحتقرون المرأة فقط أم يحتقرون أنفسهم أيضا؟ يريدون التنكيل بالمرأة أم الانتقام من المجتمع بأسره، الذى يعاملهم هذه المعاملة؟).
قرأت أيضا بعض الكتابات التى تذهب فورا إلى ذكر العقاب الواجب على مثل هذه الجرائم، وتذهب إلى أنه لا ضرورة لمعاملة صغار السن من مرتكبيها، معاملة مختلفة عن معاملة الكبار، على أساس (فيما يبدو) أن الذى يرتكب مثل هذه الأعمال لا أمل فى إصلاحه فلابد من استئصاله.
ذكرنى هذا بالعقوبات البالغة القسوة التى كانت تفرض فى أوروبا فى القرن الثامن عشر على من يرتكب جريمة السرقة، فى وقت كانت النظرية السائدة فيه هى أن المجرم «مجرم بطبعه». لكننا نعرف الآن، فى مصر كما فى غيرها، أن أمثال هؤلاء الفتية أو الشبان ليسوا مجرمين بطبعهم، إذ إننا رأينا بأعيننا ما الذى حدث من تغير فى الحياة الاجتماعية فى مصر، يوما بيوم، خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية، فأنتج هؤلاء الشبان.
الحالة مؤسفة حقا، ليس فقط بسبب بشاعة ما فعله هؤلاء الشبان، بل وأيضا بسبب صعوبة العلاج. والعلاج صعب لأن مهمتنا لابد أن تبدأ مما يقرب من الصفر. إننى أتعاطف مع ضرورة تغليظ العقوبة على التحرش، ولكننى أيضا أحذر من الظن بأن تغليظ العقوبة سوف يضع حدا نهائيا للمشكلة. إننى أعرف أن الدولة فى الصين تفرض عقوبات بالغة الشدة على جرائم من هذا النوع، ولكننى أعرف أيضا أن الدولة فى الصين تسير بخطى حثيثة للغاية (بل تقفز قفزا) من أجل استئصال الأسباب التى تؤدى إلى وجود مثل هذه الجرائم. إذ لا جدوى من تغليظ العقاب على جريمة دون أن نقضى على أسبابها. وهى أسباب أوضح من أن تحتاج إلى شرح.