كلمة «فيه» بمعنى يوجد الواردة فى عنوان المقال ليست من الكلمات الدارجة كما قد يظن البعض، وهناك كتاب شهير للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى إمام المتصوفين اسمه « فيه ما فيه»...
المهم.. الموضوع ليس حول اللغة ومفرداتها ولكنه حول المقطع المثير للاهتمام الذى يتم تداوله حاليا على مواقع التواصل الاجتماعى والذى لا يزيد على ثلاث دقائق ويتحدث فيه صائب عريقات أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية وكبير المفاوضين مع المذيع اللبنانى الشهير طونى خليفة عن العملية الجراحية الكبرى التى أجريت له فى واشنطن والتى تم بموجبها زرع رئة جديدة له..
يسأله طونى خليفة.. كيف حسيت حالك إنك مت؟ فيقول عريقات إنه بعد مضى ثلاث ساعات والجراحون منهمكون فى عملية زرع الرئة.. إذا بالقلب يتوقف.. فيتم التدخل السريع من قبل طاقم جراحة القلب المفتوح لإعادة النبض إلى القلب بعد توقف دام ثلاث دقائق وعشرين ثانية.. وبعد نجاح العملية جاءه مندوبون من قسم خاص بالمستشفى يسألونه عما رأى خلال دقائق الغياب أو «الموت» التى مر بها..
فى البداية رفض الحديث... قالوا له بدهشة نحن نجرى أبحاثا علمية وأنت أستاذ جامعى وتقدر معنى الأبحاث العلمية، فقال لهم إنه يخشى أن يتهم بالهلوسة.. وفى النهاية وافق بشرط أن يكتفى بما يود أن يقوله وليس كل ما رآه.. وهو الموقف الذى التزم به فى الحوار التليفزيونى أيضا.. فقال إنه وجد نفسه بدون جسم.. أنا صائب فعلا ولكن بدون جسم.. يطير فى الهواء بخفة وسرعة شديدة.. لا يفكر فى أهل ولا أم ولا أب ولا أولاد ولا زوجة ولا بلد ولا شىء.. يفكر فقط فى نفسه وما يحدث له..
يسأله المذيع وهل شاهدت مروجا خضراء وزروعا وألوانا ومناظر جميلة.. فيرد.. أبدا لا أخضر ولا أصفر ولا شىء سوى هذا الذى لا أستطيع أن أسميه.. فراغ كبير يسبح فيه طائرا.. ثم فجأة وجد وجوها لناس كان قد ساعدهم وأحسن إليهم يشيرون إليه أو يلوحون وبعدها وجد نفسه يستدير ويعود.
***
لم يزد السيد عريقات عن ذلك على الرغم من المحاولات الكثيرة للسيد طونى خليفة إلا تعليقا واحدا قال فيه إنه «كشخص عادى» شأن الكثيرين كان لديه تساؤلات.. هل فيه شىء بعد الموت؟ ثم يضيف ــ وقد أخذ وجهه ملامح الجدية الشديدة ــ: «لأ فيه.. فيه شىء بعد الموت».
ومنذ بدء الخليقة والناس يتساءلون هل هناك حياة بعد الموت.. «وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر»... وقد شاءت إرادة الخالق أن يمنح للإنسان الحرية حتى يسعى إليه بقلبه واقتناعه كدحا حتى يلاقيه..
ولذلك يقول سبحانه: «إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين».. ولكنه لا يريد أعناقا خاضعة بل قلوبا تسعى إليه بعد أن نظرت وتدبرت وعلمت أنه الحق.. «سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»..
***
أقول للسيد عريقات ــ الذى أحمل له الكثير من الاحترام والإعجاب ــ مبروك لنجاح العملية الجراحية الصعبة ومبروك للتجربة الروحية العظيمة التى مررت بها، ولكن عليك الحذر فقد أخذت ميزة عن معظم البشر وكل ميزة يصاحبها مسئولية، فأنت الآن خرجت من فئة «الذين يؤمنون بالغيب» فلم يعد الأمر غيبا مطلقا بل امتزج بجرعة قوية من المشاهدة..
وهذه مسئولية كبيرة تدفع المرء لكى يكون أكثر حذرا من الآخر وأكثر سعيا وتقربا إلى الله سبحانه وتعالى.. فهنيئا لك على هذه الميزة.
***
سورة مريم تحدثنا أن الحواريين عندما طلبوا أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء.. فإن السيد المسيح حذرهم من عواقب ذلك فقال لهم «... اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين».. عندئذ حذرهم الله نفسه فقال: «... إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين».. لأنه لم يعد هناك أى عذر يبرر الشك أو التساؤل.
***
كم من الملوك والرؤساء والزعماء والقادة والوزراء التقى بهم السيد عريقات وتفاوض معهم.. وكم من المحافل والمنابر الدولية استمعت إليه خطيبا مفوها ومدافعا قويا عن الحق الفلسطينى وكم من القنوات العالمية التى استضافته محدثا ومحاورا باللغات العربية والأجنبية.. لا شك أن الوجوه التى مرت به من خلال هذه الساحات بالإضافة إلى الأهل والأحباء والأصدقاء على اتساع العالم تتخطى المئات إن لم تكن بالآلاف.. إلا أنه لم ير أى وجه من هذه الوجوه.. بل رأى فقط وجوه بعض البسطاء من أناس كان قد أسدى إليهم معروفا.. رآهم يلوحون إليه باسمين.. كل الوجوه الأخرى ذهبت مع ذهاب الدنيا وبقيت هى..