فى المجال الأكاديمى أو البحثى هناك شخص لا يستطيع الاتيان بأفكار جديدة أو مبتكرة، وهناك شخص آخر يأتى بأفكار بحثية ممتازة لكنه لا يستطيع القيام بالتجارب التى تثبت فكرته كما يجب، وهناك شخص ثالث يأتى بأفكار عبقرية ويقوم بالتجارب العلمية بمهارة لكنه يكتب البحث العلمى برعونة أو بطريقة سيئة، بالنسبة للعالم الخارجى هؤلاء الأشخاص الثلاثة يُصنفون بنفس التصنيف: باحث سيئ لأنهم لا يتمكنون من نشر أبحاث علمية فى أماكن معتبرة. هذا دليل مهم على أهمية تنمية مهارة كتابة الأبحاث العلمية لأن الكثير من الباحثين خاصة من هم فى مقتبل حياتهم العلمية يظنون أن الفكرة فقط هى المهمة أو التجربة وأن الكتابة بتأنٍ وبدقة هى مجرد تضييع لوقت كان من الأفضل استغلاله فى البحث العلمى، هذه فكرة خاطئة تماما، بل وساذجة أيضا، كيف سيستفيد العالم من اكتشافك العلمى؟ لابد من كتابته ونشره ويجب أن تكون الكتابة واضحة وعميقة فى نفس الوقت، كم من أفكار عبقرية طواها النسيان والإهمال لأن أصحابها لم يهتموا بمهارة الكتابة. لكن ليس كل ما يُكتب يُنشر حتى لا يختلط الحابل بالنابل ويخرج للعالم «كلام فارغ»، لذلك من المهم وضع حراس على بوابات النشر العلمى، هؤلاء الحراس اسمهم المحكمون، مقالنا اليوم عن تحكيم الأبحاث العلمية.
التحكيم العلمى فى مؤتمر أو مجلة هو الوسيلة التى تستعملها المجلة أو المؤتمر لاتخاذ القرار بقبول البحث العلمى (أى نشره) أو رفضه، لكنك كمحكم عليك واجب آخر وهو مساعدة الباحثين الذين قدموا البحث للنشر، هذه المساعدة لا تعنى أن تقبل بحثا ضعيفا لا يستحق النشر ولكن عندما تقبل أو ترفض بحثا يجب أن تكتب حيثيات القرار وبعض النصائح العلمية المتعلقة بالبحث حتى يتمكن الباحثون من تحسينه. للأسف تلك النقطة الأخيرة يغفلها الكثير من المحكمين فتجدهم يكتبون سطرا أو إثنين وكفى. مساعدتك للمجتمع العلمى تأتى من اتخاذ القرار بالقبول أو الرفض ثم إعطاء النصائح، ولاحظ أنك محكم لكنك فى الوقت ذاته باحث ترسل أبحاثك للتحكيم، فكما تدين تدان.
يجب أيضا أن نأخذ الجانب الإنسانى فى الاعتبار، فنحن كبشر لا نستطيع أن نمنع التحيز تماما حتى وإن حرصنا. إذا كنت تحكم فى بحث لشخص تعرفه فمن الجائز جدا حتى وإن لم تدرك ذلك أن تتحيز فى تحكيمك، لذلك فى المؤتمرات والمجلات القوية مؤلفو البحث لن يعلموا من حكَّم البحث والمحكم لن يعرف من هم المؤلفون، هذه أول نقطة. النقطة الثانية أن هناك أشخاصا لن يُسمح لك بتحكيم أبحاثهم، غير مسموح لكن بتحكيم أبحاث مشرفك للماجستير والدكتوراه مدى الحياة، غير مسموح لك بتحكيم أبحاث طلبتك الذين تخرجوا على يديك فى الماجستير والدكتوراه مدى الحياة، غير مسموح لك بتحكيم أبحاث مقدمة من نفس مكان عملك سواء كان جامعة أو مركزا بحثيا أو شركة، غير مسموح لك بتحكيم أبحاث لأى شخص من عائلتك مدى الحياة، وأخيرا غير مسموح لك بتحكيم أبحاث من نشرت معهم أبحاثا مشتركة فى السنين الخمس (عدد السنين يختلف من مكان لآخر) الماضية. هكذا يحاول نظام تحكيم الأبحاث التقليل بقدر الإمكان من التحيز الإنسانى وهكذا يتقدم العلم.
رئيس لجنة التحكيم ومساعدوه هم فقط من يعرفون أسماء مقدمى الأبحاث والمحكمين وعادة لا يسمح لهم بتقديم أبحاث فى هذا المؤتمر أو المجلة طالما هم فى هذا المنصب.
طبعا هذا النظام ليس دون أخطاء وقد وقعت حالات من الغش هنا وهناك لكنه حاليا أفضل نظام موجود، من الممكن أن يتغير هذا النظام فى المستقبل عندما تدخل برمجيات الذكاء الاصطناعى فى هذا المجال، وسيحدث هذا لا محالة.
قبل أن ننهى هذا المقال نود طرح بعض الأسئلة الصعبة المتعلقة بالمؤتمرات والمجلات العلمية عندنا فى مصر، هناك بعض التخصصات مثل هندسة وعلوم الحاسب والنشر فى المؤتمرات القوية أفضل من المجلات، أما أغلب التخصصات فإن النشر فى المجلات العلمية أفضل من المؤتمرات، لكن أسئلتنا هنا عامة. لو جاءك بحث لتحكمه وعرفت أن مؤلف هذا البحث قارب من سن المعاش وهذه فرصته الأخيرة للترقية قبل المعاش وحيث إن الترقية فى الجامعات تعتمد على النشر العلمى فهل ستقبل البحث حتى وهو دون المستوى؟ وقد تقنع نفسك بأننا يجب أن يكون لنا قلب ونرأف بحال الرجل وهذا مؤتمر ضعيف ولن يقرأ تلك الأبحاث أحد. سؤال آخر: هل تنشر فقط من أجل الترقية؟ أم من أجل دفع عجلة العلم؟ وأخيرا هل ترسل أبحاثك للأماكن الضعيفة حتى تصبح فرصتها فى النشر أكبر؟ لكل منا إجاباته عن هذه الأسئلة، ولكن تلك الأسئلة تفرق بين الباحث والموظف.