البُعد الاستراتيجى للحجم السكانى - عنتر عبدالعال أبوقرين - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 8:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البُعد الاستراتيجى للحجم السكانى

نشر فى : الأربعاء 17 يوليه 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 يوليه 2024 - 7:30 م

تركز غالبية الدراسات السكانية الدولية على التبعات الاقتصادية السلبية للنمو السكانى، مغفلة، عن قصد، التبعات الاستراتيجية طويلة المدى للتغيرات السكانية، والتى تؤثر على مستقبل الأمم ومصائر الشعوب. لذا، نحاول فى هذا المقال توضيح الأهمية الاستراتيجية للحجم السكانى من حيث الوضع الاستراتيجى والسياسى للأمم على الساحة الدولية، ومن حيث دوره فى حفظ سيادة الدول وحماية أراضيها ومقدراتها التنموية.

• • •
من حيث الوضع الاستراتيجى والسياسى للأمم على الساحة الدولية، فإن الغرب يُدرك تمامًا البُعد الاستراتيجى للثقل السكانى، وأن التغير فى التوزيع الجغرافى للسكان يصحبه تغير فى توزيع الثقل الاقتصادى والاستراتيجى للدول حول العالم. وقد تزايد اهتمام الغرب بهذه النقطة مع بداية هذا القرن، فقد بدأ ظهور العديد من الدراسات التى تتناول هذا الموضوع. فقد ظهرت دراسات مثل «نهضة الآخر: تحديات للغرب - The Rise of ‘The Rest’: Challenges to the West» (Amsden, 2001) و«هل تستطيع أوروبا مواجهة نهضة الآخر Can Europe Survive the Rise of the Rest» (ASH, 2012) و«عالم ما بعد أمريكا: وصعود الآخر The Post-American World: And The Rise of The Rest» (Zakaria, 2008). وكذلك كتاب Patrick Buchanan «موت الغرب - The Death of the West» (Buchanan, 2001) ،ومقال صحيفة التليجراف البريطانية «كيف تموت أوروبا ببطء بينما يزداد العالم سكانًا - How Europe is Slowly Dying Despite an Increasing World Population» (Akkoc, 2015).
كل هذه الدراسات تؤكد على الدور الاستراتيجى للحجم السكانى، وترى بأن سيطرة وهيمنة الغرب الاقتصادية والسياسية والسكانية تواجه تحدى نهضة ونمو الجنوب والشرق، واللذين يشهدان نموا سكانيا غير مسبوق. وتؤكد الإحصائيات الصادرة عن جهات أوروبية، أنه نتيجة للانكماش السكانى فى أوروبا، فقد تراجع نصيبها من الناتج المحلى الإجمالى العالمى (Global GDP) من 44.0% عام 1870م، إلى 36.3% عام 1960، إلى 22.4% عام 2020، ومن المتوقع ألا يتجاوز 9.9% عام 2100. وهو ما يعنى التراجع الكبير، الحالى والمتوقَع، فى الدور الاستراتيجى والاقتصادى لأوروبا على الساحة العالمية.
• • •
أما من حيث القدرة على شن الحروب واحتلال الدول، فإن ذلك يعتمد بشكل قاطع على التفوق السكانى للدول الغازية؛ فما كانت أوروبا لتستطيع أن تحتل إفريقيا دون تفوق سكانى كبير. ففى عام 1880م، ومع بدء حملة «التدافع على إفريقيا - Scramble for Africa»، حين تسابقت الدول الأوروبية لاحتلال القارة، سعيًا لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية، كانت أوروبا بحجم سكانى يعادل ثلاث مرات تقريبا، (2٫7)، الحجم السكانى لإفريقيا!. أما فى 2023، فقد انعكس الوضع، ليصبح الحجم السكانى لإفريقيا (1.443 بليون نسمة) يقارب ضعف نظيره فى أوروبا (742 مليون نسمة، منهم 21% فوق 65 سنة و6% من المهاجرين)؛ وهو ما يستحيل معه أن تكرر أوروبا احتلالها العسكرى لإفريقيا. أما فى 2100، فإن الحجم السكانى لإفريقيا (3.9 بليون نسمة)، سيكون حوالى سبعة أضعاف نظيره فى أوروبا (587 مليون نسمة)؛ بل إن نيجيريا بمفردها ستكون بحجم سكانى يعادل أوروبا بكاملها.
هذا الوضع الديموغرافى يثير الذعر فى أوروبا، والغرب عمومًا، خوفًا من نهضة الشعوب الموتورة، التى عانت ظلم الاحتلال وقهره. وهو ما يفسر استماتة الغرب فى الحد من السكان فى العالم النامى بذرائع شتى.. يرفضها المنطق وتدحضها الإحصائيات.
وللتأكيد على أهمية البُعد الاستراتيجى للحجم السكانى، يكفى أن نشير هنا إلى أنه، وحتى مائتى عام مضت، وفى عام 1824، لم يكن الحجم السكانى لمصر يتجاوز 4.4 مليون نسمة؛ وهو ما جعلها مطمعًا، وصيدًا سهلًا لكل لصوص الأرض. وما لا يعلمه البعض أن فرنسا عند احتلالها لمصر عام 1798م، كانت بحجم سكانى يعادل 9.6 مرة عدد سكان مصر؛ وأن بريطانيا عند احتلالها لمصر عام 1882م كانت بحجم سكانى 4.4 مرة عدد سكان مصر. وعليه، فإن ما شهدته مصر من زيادة سكانية خلال السبعين عاما الماضية هو أفضل إنجاز استراتيجى لثورة يوليو 1952، وما أحدثته من تفاؤل واصطفاف وطنى غيّر المعادلة الديموغرافية لصالح مصر بشكل مطلق. ففى 2020، أصبحت فرنسا لا تعادل سوى 0.5 سكان مصر (64 مليونا، 21% منهم فوق 65 سنة، و15% من المهاجرين)؛ وبريطانيا لا تعادل سوى 0.6 سكان مصر (67 مليونا؛ 19% منهم فوق 65 سنة، و10% من المهاجرين). ترى هل تستطيع فرنسا أو بريطانيا احتلال مصر اليوم؟
أما فى عام 2100، وطبقا للسيناريو المتوسط لتقديرات الأمم المتحدة، فإن فرنسا لن تعادل سوى 0.3 من سكان مصر (60.8 مليون، منهم 20.8 مليون فوق 65 سنة، بينما مصر بحجم سكانى 205 ملايين نسمة، تقدير متوسط)، كما أن بريطانيا لن تعادل سوى 0.34 سكان مصر (70.4 مليون، منهم 22.95 مليون فوق 65 سنة).
• • •
إجمالا، ستصبح مصر بمفردها بحجم سكانى أكبر من جميع دول أوروبا الغربية! هذا هو المستقبل الديموغرافى المفزع الذى تتحاشاه أوروبا... والذى يزداد سوءا عن النظر لمدى زمنى أطول فى المستقبل. ونشير هنا إلى تقرير الأمم المتحدة «سكان العالم حتى عام 2300 - «World Population to 2300 الذى يرسم صورة قاتمة عن مستقبل السكان فى أوروبا طالما لم ترتفع معدلات الخصوبة فيها عن المعدلات الحالية.
يقول التقرير إن الاتحاد الأوروبى، والذى يشمل 452 ــ 455 مليون نسمة طبقا لأعداد 2000 ــ 2005، من المتوقع أن ينخفض عدد سكانه إلى 59 مليونا فقط عام 2300. كما أن حوالى نصف دول أوروبا ستفقد 95% أو أكثر من سكانها الحاليين، إذ إن دولا مثل روسيا الاتحادية وإيطاليا سينخفض سكانها إلى 1% فقط من سكانها الحاليين. وبصورة أكثر وضوحا، فإن الألمان والفرنسيين والبريطانيين لن يكون لهم، نظريا، وجود عام 2300م (Mosher, et al., 2013) (UN DESA, 2004). ... فهل هناك تأثير استراتيجى أخطر من ذلك؟!
لذا، فإنه على مصر، وجميع الدول النامية، مراجعة سياساتها وتوجهاتها السكانية، لتقدم إجابات وطنية خالصة للقضايا الديموغرافية الرئيسية، مثل: التغير فى الثقل السكانى لمصر عالميا وإقليميا، التغير فى نسب الأطفال وكبار السن، التغير فى نسبة السكان فى سن العمل. ذلك، مع ضرورة أن لا نُصَدق كل ما نسمع من نصائح أو توصيات دون تمحيص أو تدقيق؛ إذ إن النصيحة الفاسدة أو المُسَممة فى هذا المجال أخطر فتكا وأعمق أثرا من الحروب والكوارث.

عنتر عبدالعال أبوقرين  استاذ مساعد التخطيط العمراني والا قليمي،كلية الهندسة،جامعة المنيا
التعليقات