الأصل فى الاستثمار الأجنبى أنه يجلب للبلد الذى يستضيفه منافع كثيرة، على رأسها العملة الأجنبية، والتكنولوجيا الجديدة، والخبرات الفنية والإدارية غير المتوفرة محليا، والفرصة لزيادة معدلات الانتاج والتشغيل والتصدير والنموالاقتصادى. والأصل أيضا أن اتفاقات الاستثمار الثنائية وما تتضمنه من التزام بآليات وأحكام التحكيم الدولى من اهم محفزات الاستثمار الأجنبى لأنها تمنح المستثمرين الطمأنينة بان البلد المستضيف لن يتعسف فى استخدام سلطاته السيادية فى المسائل التجارية.
ولكن من وقت لآخر يحدث ما يذكرنا بأن الاستثمار الأجنبى، إن لم تحسن ادارته وتقدير عواقبه، يمكن أن يتحول إلى سلاح ذى حدين، يضر البلد أكثر مما يفيده،ويلقى على عاتق الدولة بالتزامات وتعويضات فادحة لا يتحمل عواقبها المسئولون بل الشعب الذى يسدد الثمن من مدخراته ومن موارده التى كان يجدر أن تتجه لتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.
من هذه اللحظات الفارقة حكم التحكيم الدولى الذى صدر ضد مصر منذ أسبوعين لصالح شركة أسبانية بقيمة مليارى دولار أمريكى استنادا لعدم تنفيذ مصر لالتزامها بتوريد الغاز الطبيعى لمصنع الشركة فى دمياط. وبغض النظر عما اذا كانت مصر
ستدفع التعويض كاملا أم ستنجح فى التفاوض على تخفيضه أم استبداله بالتزامات اخرى، فإن النتيجة تظل مؤسفة وذات عواقب وخيمة. ولهذا فليس غريبا أن ترتفع الأصوات المطالبة بإعادة النظر فى سياسة الدولة لجذب الاستثمار بل والانسحاب من الاتفاقات الدولية التى تلزم مصر باحترام احكام التحكيم الدولية.
ولكن هذا رد فعل مبالغ فيه وبالتأكيد يؤدى لنتائج عكسية على الاقتصاد القومى.
فالواقع أن الاستثمار الأجنبى، وما يرتبط به من قبول للتحكيم الدولى، ليس شرا ولا خيرا فى حد ذاته، بل يأتى بعوائد سلبية أو إيجابية على أى بلد فى العالم بمقدار قدرة هذا البلد على إدارة ملف الاستثمار بحكمة وكفاءة، وتحديد أولوياته بوضوح، وتقديم الحوافز اللازمة لاستقطابه دون تعارض مع مصلحة البلد، ووضع الضوابط التى يلزم على المستثمرين احترامها بوضوح وشفافية، والدخول مع الشركات والمؤسسات العالمية فى شراكات واتفاقات متوازنة.
ولكن حينما تسعى الدول لجذب الاستثمار الأجنبى بأى شكل وأى ثمن ودون تقدير لميزان التكلفة والعائد، وحينما يكون معيار النجاح الوحيد لدى متخذى القراروالاعلام والجهات الرقابية والبرلمانية هو حجم الاستثمار الوافد إلى البلد دون تقدير للاثر الذى يحدثه، فإن هذا يهدد باستنزاف الموارد الطبيعية بأثمان بخسة،أو تصدير المعادن والثروات دون تحقيق قيمة مضافة، أو تلويث البيئة وتدمير الشواطئ والأنهار، أو استغلال العمالة المحلية دون مقابل عادل، أو التضحية بعوائد جمركية وضريبية بلا مبرر، أو التعاقد مع المستثمرين بشروط مجحفة وغير مدروسة تكون نهايتها التحكيم والتعويض.
لهذا فإن الحوار العالمى عن الاستثمار لم يعد معنيا بمجرد مقارنة الدول من حيث حجم الاستثمار الأجنبى الذى تستقطبه، وإنما بنوعية هذا الاستثمار واستدامته وما يضيفه لاقتصاد البلد من أجل تقدير إن كان فى نهاية المطاف مفيدا أم ضارا.
وهذا ليس خطابا متطرفا أو خياليا، بل تتصدره مؤسسات ومعاهد رصينة وجادة، أذكر منهاعلى سبيل المثال مركز القانون الدولى بروما (IDLO) ومركز كولومبيا للاستثمار المستدام بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك (CCSD) ومنظمة الامم المتحدة للتجارة والتنمية بمدينة جنيف (UNCTAD) ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بمدينة باريس (OECD)، وكلها تنصح البلدان النامية بتبنى سياسات استثمارية متوازنة ومستدامة.
الحكم على مصر بتعويض قدره خمسة وثلاثين مليار جنيه مصرى لا ينبغى أن يمرمرور الكرام، ولا ان يتوقف عند حد ابداء الغضب والحسرة، وبالتأكيد لا يكون مناسبة للتراجع عن الاهتمام بجذب وتشجيع الاستثمار الأجنبى والمحلى. ولكنه يجب أن يكون مناسبة للتفكير والحوار حول مستقبل الاستثمار الأجنبى فى مصر وضرورة بلورة سياسة اكثر اتساعا وعمقا من مجرد السعى لجذب الاستثمار بأى شروط وأية تكلفة، سياسة تضع الصالح العام الاقتصادى فى الصدارة وتدرك ان معادلة الاستثمار لا تنجح الا اذا حققت مصلحة المستثمر والبلد معا.