لافتات الشوارع وخاصة اللوحات الإرشادية على الطرق المرورية تؤدى وظيفة عملية مهمة جدا، كما أنها أداة اتصال وتواصل رئيسة بين المواطنين والدولة، متمثلة هنا فى الجهات المسئولة عن تخطيط وتنظيم المرور. ورغم حدوث تحسن طفيف فى أعداد ونوعية اللوحات الإرشادية أخيرا على أنها لاتزال بعيدة كما وكيفا عن أن تفى بمهمتها على الوجه الأكمل. وتزداد أهمية اللوحات بشكل خاص على الطرق السريعة، حيث يشكل غيابها خطرا كبيرا، فضلا عن أن نقصها داخل المدن هو سبب رئيسى للارتباك المرورى.
كثيرا ما يثار هذا الموضوع، وعادة ما ترد الجهات المختصة بأن اللوحات تتم سرقتها. هذا فى الغالب صحيح، وإن كنت أشك أنه السبب الأساسى فى المشكلة. كما أننى أتعجب بعض الشىء من الإفراط فى استخدام هذا العذر والتركيز عليه ــ فسرقة اللافتات الرسمية بهذا التكرار والانتظام له مغزى رمزى محرج لأى دولة تحرص على هيبتها.
موضوعى اليوم ليس عن المرور وإنما هى بعض ملاحظات عن شكل ومضمون لافتات الشوارع الرسمية، ومنها لوحات الإرشاد المرورى. هذا المجال، بالمناسبة، ملىء بالطرائف وهناك العديد من المواقع على الإنترنت تختص بنشر تلك النوادر وتبادلها.
والحق أن ذلك لا يقتصر على مصر فقط، وإنما طرائف اللافتات وهواية جمعها هى بالفعل ظاهرة عالمية. لن أتناول هنا مثلا بأى تفصيل أشياء مثل الأخطاء اللغوية أو المضمون المضلل أو طريقة وضع اللافتات، وهى أشياء مهمة للغاية بالطبع. ما أريد الإشارة إليه هو كون الكثير من هذه اللافتات التى هى بالأساس «علامات» المفترض منها أن ترسل إشارات بصرية مختصرة، إلا أنها ليست علامات على الإطلاق. فنجد فى كثير من الأحيان لافتات هى فى الحقيقة قطع نثرية كاملة من عدة أسطر وتتميز دائما بتركيبات لغوية غريبة. فهناك مثلا لافتة ضخمة بالقرب من جامعة عين شمس هى جملة طويلة من ستة أسطر أوردها كما هى: «المتجه إلى شارع العباسية يسلك يسارا من ميدان العباسية إلى شارع امتداد رمسيس فيمينا شارع فخرى عبدالنور فيمينا شارع عظيم الدولة».
وتوجد بالذات عند مطالع محور 26 يوليو لافتات بها مقاطع مطولة من قانون المرور، أما الأغرب فى رأيى فهو أن العلامات المرورية المتعارف عليها دوليا (مثل علامة ممنوع الانتظار وعبور المشاة وغيرها) ــ التى يجب على قائد السيارة أن يكون على علم بمدلولها، حيث إنها تشكل جزءا أساسيا من اختبار رخصة القيادة ــ تأتى فى أغلب الأحيان مصحوبة بـ«ترجمة» نصية للإشارة.
وكثيرا ما تساءلت عما ممكن أن يعنيه الإفراط فى استخدام النص، وعدم الاكتفاء بالإشارة المرسومة، وضرورة مرافقة النص لها أو تنحيتها تماما لصالحه.
وإذا دققنا فى الأمر سنجد أننا بصدد حالة تشبه تماما، وإن بشكل معاكس، استخدام الرمز الانتخابى للتغلب على مشكلة الأمية الأبجدية. فهل الإفراط فى استخدام النص فى حالتنا هو وسيلة للتعامل مع أمية بصرية حقيقية أو مفترضة من أولى الأمر؟.. هل هو عدم ثقة فى قدرة الناس على قراءة الإشارات أو هو عدم اعتراف بأن العلامات والرموز هى دلالات مستقلة قادرة على توصيل المعلومة بمفردها؟
لم تكن لهذه الأسئلة أن تشغلنى لو لم أكن قد تربيت على أعمال الفنان محيى الدين اللباد الذى يستهل كتابه «لغة بدون كلمات: العلامة.. الإشارة.. الرمز» بوصفه لهذه اللغة «لغة العلامات والإشارات المرسومة، التى يفهم الجميع معانيها بشكل واحد ودون التباس، وبمجرد إلقاء نظرة خاطفة إليها. إنها اللغة التى لا تكتب بحروف وكلمات، بل بأشكال وخطوط وألوان».
أعترف أن هذا الموضوع هو ذريعتى وفرصتى لتحية هذا الفنان، الذى وإن حرمنا من متعة يومية أو منتظمة لمطالعة رسومه الكاريكاتورية المتميزة، فقد عوضنا بأعمال هى فريدة بحق منذ بدأ فى نشر موضوعاته عن الظواهر البصرية فى باب «نظر» فى مجلة صباح الخير فى الثمانينيات، والتى جمعها بعد ذلك مع ما نشر فى أماكن أخرى فى أربعة ألبومات تحمل نفس الاسم، وتبعها بـ«كشكول الرسام» و«تى شيرت» و«ملاحظات» و«لغة بدون كلمات» وغيرها.
هذه الأعمال ليست ممتعة فقط، ولكنها دروس فى قراءة الظواهر والمنتجات البصرية، ودليل يهدينا إلى مواطن البهجة والابتكار فيما لم نلحظه من قبل فى كل ما حولنا. ألبومات اللباد لا حل لها سوى الاقتناء. لو استعرتها فلن تعيدها وإن أعرتها فلن تعود، وهى جديرة تماما بصيحة البائع الشهيرة «أجمل الهدايا».