حروب مصر الأهلية - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الخميس 10 أبريل 2025 4:12 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

حروب مصر الأهلية

نشر فى : الخميس 17 نوفمبر 2011 - 9:40 ص | آخر تحديث : الخميس 17 نوفمبر 2011 - 9:40 ص

يكاد المرء يجن. يحتاج إلى أن يضغط بكفيه على رأسه بقوة حتى يتأكد أن ما يقرأه ويسمع حكاياته صحيح. انتابنى هذا الشعور غير مرة منذ عيد الأضحى. لكن الأمر بلغ ذروته لدى مطالعتى مانشيتات صحف الاثنين الماضى، لأن من يقرأها يخيل إليه أن مصر تتعرض لعدوان خارجى جسيم. ولنأخذ صحيفتنا مثالا ونقرأ: رأس البر وميناء دمياط تحت الحصار لليوم السادس ــ الصاعقة تفتح الطريق الدولى الساحلى ــ محاولة فاشلة لفك حصار دمياط ــ الجيش يحرر الميناء لساعات.. وهلم جرا. إن مصر تتعرض بالفعل لعدوان جسيم، لكن أبناءها ومن يديرون دفة الحكم فيها هم المسئولون عن هذا العدوان.

 

●●●

 

ولنبدأ بالحالة الوحيدة التى يمكن أن يكون لها منطق وهى حالة الاحتجاجات الشعبية فى مدينة دمياط على استمرار عمل مصنع موبكو لاتهامه بتلويث شديد للبيئة أدى إلى فساد الزرع والأسماك وتشويه الأجنة وارتفاع معدلات الإصابة بمرض السرطان. إلى هذا الحد تبدو الأمور منطقية، وسوف نفترض كذلك أن حجج المحتجين صحيحة على الرغم من أنها قابلة للمناقشة والتحقق، ولكن ما علاقة هذا كله بحصار مدينة رأس البر التى يفترض أنها رئة الدمايطة، وبتقطيع أوصال مدينة دمياط ذاتها وحصار مينائها، ودعوة المحتجين الناس للانضمام إليهم لمواجهة محاولات الجيش فتح الطرق، وقطع جميع الطرق المؤدية إلى مدينة دمياط الجديدة، بل ومحاولة قطع الطريق الزراعى بين دمياط والمنصورة الذى يمر بقرية السنانية رأس الرمح فى هذه الأحداث؟

 

لن أعدد الخسائر الاقتصادية لهذه الأعمال فإن حقوق الناس لا تقدر بثمن ولكن المشكلة تكمن فى غياب آليات التفاوض وهيمنة آليات «لى الذراع» إشارة إلى ضرورة إكراه السلطات على قبول مطالب المحتجين دون قيد أو شرط، وهم معذورون فى هذا لأنهم يعرفون عديدا من السوابق التى ضرب المحتجون فيها بالقانون عرض الحائط (كما فى أحداث الاعتراض على تعيين محافظ قبطى لقنا وما تخللها من انتهاك فاضح للقوانين دون عقاب)، أما المشكلة الأكبر فهى عدم إحساس المحتجين بالمعاناة الإنسانية العالية التى سببوها بأعمالهم، فرأس البر المحاصرة وصل بها الأمر إلى أن تفرغ مستودعاتها من السلع الأساسية، وهو أمر امتد ولو جزئيا إلى دمياط، ناهيك عن صعوبة توفير الخدمات الأخرى مثل الخدمة الطبية، واحتجاز أعداد من المواطنين فى رأس البر كل ذنبهم أنهم تصوروا أن هناك عيدا وأن رأس البر مكان جميل لقضاء إجازته.

 

●●●

 

بعد دمياط تأتى بلطيم. تلك المدينة الهادئة الساحرة لنبدأ رحلة «الصراعات الزائفة» بلغة التحليل العملى و«التافهة» التى لا تليق بوطن كمصر بلغة الحال الذى وصلنا إليه. السبب فى هذه الحالة ليس إهلاك الزرع والنسل وإنما مشاجرة بين سائق «توك توك» وقائد سيارة ملاكى من قرية سوق الثلاثاء خلال زفاف إحدى فتيات القرية بالمدينة. تطورت المشاجرة بحيث أصيب العشرات فيها معظمهم من سوق الثلاثاء التى رد أهلها بخطف أربعة من المدينة واحتجازهم وتسليمهم لاحقا للأمن الذى أخلى سبيلهم بعد ساعات (ربما لعدم كفاية الأدلة) مما أدى إلى أن يرد سكان سوق الثلاثاء بـ«هجوم شامل» على بلطيم استخدمت فيه جميع الأسلحة المتاحة نارية وبيضاء وشوم أعقب ذلك «العدوان» دعوة «وطنية» حملتها مكبرات الصوت للتبرع لشراء أسلحة للدفاع عن المدينة، وتحصن أهل «الثلاثاء» بقريتهم فحفروا الخنادق وقطعوا الطرق، واستدعوا أقارب مسلحين لهم من عدة محافظات شكلوا دوريات حراسة، فيما قطع عدد من أهالى بلطيم (أو بلطجيتها؟) التيار الكهربى عن سوق الثلاثاء فانتشرت شائعات بأن هذه مقدمة «لهجوم ليلى»، وتمت إعادة التيار بعد ساعتين لتنتشر شائعة تسميم مياه الشرب التى تغذى سوق الثلاثاء. علما بأن عديدين من أبناء بلطيم وسوق الثلاثاء يستنكرون كل ما حدث لعدم وجود خلافات سابقة، بل على العكس فإن ثمة علاقات مصاهرة ومصالح تجارية متبادلة.

 

●●●

 

لا تختلف المعارك الطاحنة التى دارت فى سوهاج بين قريتى أولاد يحيى (هوارة) وأولاد خلف (عرب) تفاهة فى أسبابها عما سبق. فى البدء كانت مشاجرة حول «أولوية المرور» وقيل إن المشكلة حُلَت فى اليوم نفسه لكن احتكاكات حدثت بين الطرفين أثناء زيارة المدافن فى العيد مما أسفر عن قتيلين من أولاد خلف وثالث من أولاد يحيى بالإضافة إلى المصابين من الطرفين ومن قوات الأمن. والأخطر أن هناك تضامنا قبليا قد تبلور فى خضم الأحداث، فقطع أهالى نجع الدير الطريق الصحراوى الشرقى تضامنا مع قرية أولاد خلف، وأشير إلى «تحركات وشيكة» من قبل العرب فى البلينا وبرديس لمساندة أولاد خلف بما ينذر بصدام بين العرب والهوارة. واعتبر أن إقناع أولاد يحيى بأن يدفن أولاد خلف جثتى قتيليهم فى المدافن فى قرية أولاد يحيى إنجازا عظيما على طريق تسوية الأزمة.

 

تبقى بعد ذلك عشرات من الأمثلة التافهة الأخرى التى تضيق بها هذه المساحة مثل منع أهالى أسوان القطار القادم من القاهرة من الوصول إلى الرصيف احتجاجا على تفشى السوق السوداء فى تذاكر السفر، وقطع أهالى قرية بهادة مركز القناطر الخيرية طريق بنها- القناطر لعدم وجود مستودع لأنابيب البوتاجاز فى قريتهم (!)، و«فتنة الكشرى» فى الدخيلة بين شباب مسلمين وآخرين أقباط سواء كانت أحداث الشغب ترجع إلى «أولوية المرور» بالنسبة لشابين من الطرفين أو أولوية الحصول على «علبة كشرى»، وتكسير ألتراس الأهلى منشآت النادى الأوليمبى وتحطيم عشرات السيارات بعد هزيمة فريقهم فى كرة اليد وغير ذلك الكثير الغث.

 

●●●

 

ما الذى جرى لمصر والمصريين؟ فى السنة الأولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كانت تُدرَس لنا «حالة الفطرة الأولى» المنسوبة للمفكر البريطانى توماس هوبز فى إطار نظرية العقد الاجتماعى، وكان توصيفه لهذه الحالة أنها «حرب الجميع ضد الجميع» قبل نشأة سلطة الدولة، وعندما بلغ السيل الزبى اتفق المتحاربون على أن يعهدوا بالسلطة إلى حاكم قوى بهدف تحقيق الاستقرار على حساب حقوقهم الديمقراطية. فهل تسير مصر فى هذا الاتجاه؟ كتبت مرة فى هذه الصفحة منذ شهور مقالا بعنوان «وداعا للدولة» وإن الأمثلة التى استندت إليها فى هذا المقال لتتوارى خجلا مما يحدث الآن. فثمة تآكل ملحوظ لسلطة الدولة ليس فقط على الصعيد الأمنى، وإنما أيضا على الصعيد السياسى، فلم ألحظ فى كل ما سبق جهدا سياسيا متميزا لرأب الصدع، وثمة فجوة واضحة بين الحكومة التى تتحدث عن اجتماع لجنة يوم الاثنين الماضى والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى أصدر فى اليوم نفسه قرارا بالوقف النهائى لعمل المصنع، وهو قرار يستجيب لمطالب المحتجين لكنه يواصل انتهاك سيادة القانون (متى يأخذ الناس حقوقهم ويُحاسبون على انتهاكهم القانون فى الوقت نفسه؟).

 

بل إن الخطر قد لا يكون على سلطة الدولة وحدها وإنما يمتد إلى بنيتها، فها نحن نشاهد تحالفات قبلية فى وطن كنا نفخر بأن دولته عريقة وراسخة، فهل تغير المصريون أكثر وأكثر بعد ما كتب جلال أمين كتابه المتميز (ما الذى جرى للمصريين؟). تحضرنى هنا فقرة من عمود الكاتب المبدع خالد منتصر فى المصرى اليوم (13/11) قال فيها تحت عنوان «قطع الطريق لا يليق بالدمايطة»: «قطع الطريق جريمة بربرية انتشرت فى ربوع مصر كالوباء. إنها أسوأ صور الاحتجاج وأكثرها فوضوية ولا إنسانية لم أنتظرها من أهلى الدمايطة». وقد بلغ اهتمامى بهذه الفقرة مبلغه لأن لدى الشعور نفسه بخصوص أهلى فى الصعيد الذين وصفتهم يوما زوجة واحد من أشهر الدبلوماسيين الأمريكيين الذين عملوا فى الوطن العربى بأنهم «أطيب ناس» فى العالم، فهل يكون غياب المشروع الوطنى الجامع هو السبب؟

 

لا أشعر بميل إلى الحديث فى هذا السياق عن تقصير قوات الأمن والجيش، فلا توجد قوة مسلحة قادرة على أن تضبط شعبا بأكمله يبدو أن مسا من الجنون قد أصابه، وإن كان هذا لا يَجُب ضرورة الخروج السريع والناجح من المعضلة الراهنة للشرطة، ولكن ميلى هنا هو أن أتحدث عن مسئولية السياسة فى المقام الأول. والرسالة هنا للسلطة والنخبة معا اللتين يبدو أن الصراع بينهما على «قضايا كبرى» بينما ما يجرى على صعيد المواطنين العاديين أهم لأنه أساس قيام الدولة ونشر الديمقراطية فيها. فهل تبدى السلطة والنخبة معا قدرا أكبر من الاهتمام بالحالة الراهنة للمجتمع المصرى التى لا يمكن أن نتحدث معها عن وطن ديمقراطى عادل؟   

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية