جلس راجو خلف مقود السيارة فرحا بما أنجز، فاليوم هو الأول فى عمله الجديد كسائق فى إحدى الدول العربية النفطية التى حلم قبل عشر سنوات بالعمل تحت سمائها.. تذكر الرجل الآسيوى الذى تجاوز عمره الأربعين كيف مرت به رحلة الوصول من قريته الصغيرة المتواضعة فى دولته المترامية الأطراف إلى عالمه الجديد الأكثر نظاما وترتيبا ورغدا فى العيش.
شريط الذكريات، بحلوها ومرها، مضى أمام عينى السائق الشاب كما شريط سينمائى حافل بالأحداث التى تصعد حينا، وتخفت أحيانا. استدعت ذاكرة راجو مرحلة التدريب الأولى على قيادة السيارات بعد أن نصحه الأهل بالالتحاق بمعهد تأهل الراغبين فى العمل كسائقين عقب تخرجه من المدرسة المتوسطة، لمساعدة أسرته البسيطة على مواجهة ظروف العيش الصعبة.
خاض الرجل تجربة لم تكن سهلة قبل الحصول على إجازة تؤهله للعمل كسائق على مركبة خفيفة، وبعد جهد جهيد، واختبار جديد، حصل راجو على وظيفة فى إحدى شركات سيارات الأجرة مقابل راتب يكاد يكفى احتياجاته اليومية، لكنها وظيفة على كل حال أغنته شر السؤال، وجنبت أسرته جزءا من أعباء المعيشة التى تثقل كاهلها.
قضى الآسيوى الشاب عشر سنوات متنقلا بالعمل بين العديد من شركات سيارات الأجرة بالمدينة المجاورة لقريته، لكن حلم الانتقال إلى الدولة الخليجية النفطية ظل يراوده، مدفوعا بتجربة رفقائه الذين سبقوه للعمل فيها، حيث استطاع عدد منهم انتشال أسرهم من مستوى المعيشة المتدنى إلى آفاق أكثر رغدا، وأقل كدرا فى تدبير أمور الحياة.
ذات يوم تلقى راجو المكالمة الهاتفية التى انتظرها طويلا، حيث أخبره الصوت على الطرف الآخر بضرورة الحضور فى الغد إلى مقر شركة التوظيف للقاء مندوب الشركة الخليجية الذى جاء بحثا عن سائقين جدد للعمل لديها، طار عقل راجو غير مصدق أن حلمه اقترب من التحقيق، ليتذكر بعد سنوات كيف مضت الساعات بطيئة قبل أن يصل الغد المنتظر.
مع اشراقة نور الصباح سارع الرجل إلى مقر شركة توظيف العمالة.. كان الموظفون للتو أتوا، قبل أن تستقبله السكرتيرة الحسناء بوجه بشوش طالبة منه أن يملأ استمارة التوظيف المعدة، وأن ينتظر قليلا قبل الدخول على لجنة الاختبار. بعد نحو الساعة دخل راجو إلى غرفة فسيحة كان يجلس بها ثلاثة رجال تبدو الملامح العربية على أحدهم، حيث خضع لسيل منهمر من الأسئلة عن تاريخه الوظيفى ومعلومات عن الدولة الخليجية الراغب فى العمل فيها.
انتهى الاختبار النظرى الذى اجتازه راجو، ليخضع فى اليوم التالى لاختبار ميدانى للوقوف على مدى جاهزيته للعمل كسائق، رغم حصوله على رخصة قيادة قبل عشر سنوات، واجتهاده فى عمله، وسمعته الطيبة كما هو ثابت من الأوراق التى أرفقها بطلب التوظيف، لكن هذا هو النظام المعمول به لاختيار السائقين للعمل فى الدولة التى يسعى إلى الذهاب إليها.
وكما الاختبار الأول نحج الرجل فى الامتحان العملى الذى تطلب منه القيادة لأكثر من ساعتين فى ظروف طرق مختلفة، ما بين منحنيات خطرة، وصعود تلال، وعبور أنفاق وشوارع مكتظة بحركة سير مزدحمة، غير أنه قدم ما يقنع لجنة الاختبار بقدرته على العمل فى ظروف متغيرة.
بعد انتظار ليس بالقصير، حصل راجو على عقد العمل الموعود، وفى أقل من أسبوعين وجد نفسه فى الدولة الخليجية المرجوة، ليخوض اختبارا أشد قسوة، حيث التحق بشركة تدريب على القيادة لمدة ثلاثة أشهر كاملة، قبل أن يخضع فى إدارة المرور لامتحانات نظرية وعملية، من بينها أن يعرف معظم الطرق والشوارع الرئيسية والأماكن الخدمية فى المدينة التى سيعمل بها.
أخيرا أمسك الرجل برخصة القيادة التى ستفتح له بابا على المستقبل الجديد، ليبدأ رحلة عمل مضنية كسائق تاكسى، قبل أن يلتحق بالمؤسسة الصحفية التى كنت أعمل بها، كسائق حافلة، تقوده سنوات طويلة من الخبرة المتراكمة التى جعلته خبيرا فى كل كبيرة وصغيرة تتعلق بالمدينة التى نعيش فيها.. فقط أنت تسأل وراجو يجيب.