هى اللحظات التى ترفض على امتداد سنوات حياتى إلا أن تطل من ذاكرتى بين الحين والآخر لتزيح جانبًا لحظات أخرى أعيشها وتحل محلها أو تختلط معها. لحظات من الماضى البعيد تطل فتؤرقنى وأحيانًا تسعدنى وكثيرًا ما تعيدنى إلى أيام غابت لبعض الوقت عن ذاكرتى أو حاولت أن تغيب. كثيرًا ما ظننت بما تخلفه من مشاعر أنها تجدد الدماء التى تجرى فى عروقى وتبث روحًا جديدة لإحياء لحظات أخرى من زمانها ولو على حساب زمانى وناسى وما استجد من حكاياتى. حاولت معرفة ميكانيزمات ظهورها ومحركات وجودها حية فى الذاكرة، وفشلت. بعضها يبدو للغير بسيطًا إلى حد التفاهة بالنسبة لى أراها محطات ساهمت فى بناء إنسان.
• • •
من هذه اللحظات أختار نماذج هى بين الأكثر ظهورًا والأطول بقاءً. أذكر مثلاً تلك الليلة من ليالى شهر رمضان. أظن أننى كنت فى العاشرة أو تجاوزتها بقليل حين تلاقينا كعادتنا فى هذا الشهر الممتع لنلعب كرة القدم فى شارع مجلس النواب المضاء دائمًا والهادئ مرورًا. حدث ليلتها أن إحدى القذفات أو الرميات انتهت بالكرة داخل أحد المحلات بعد أن مرت بنافذته الزجاجية الواسعة فدمرتها تدميرًا. لم يكن ينفع أو يفيد الهروب فكلنا معروفون فى الشارع ولدى صاحب المحل الذى أصر على استدعاء شرطى الحى وبدوره استجاب لغضب التاجر، فقرر وبمساعدة رجال آخرين الإمساك بى وبعدد من الأطفال ومشينا جميعًا فى اتجاه قسم شرطة السيدة فى ميدان السيدة زينب. عرفنا بعدها أن آخرين من أهل الحى تطوعوا لإبلاغ أهالينا. أذكر جيدًا الألم الذى تسببت فيه القبضة القوية لرجل الشرطة الممسك بيدى والشتائم التى تفوه بها وأكثرها يمت إلى قاموس من المفردات لا عهد لنا به، على الأقل فى حينا ومدارسنا المحافظة. أذكر أيضًا منظر والدى وهو يهدد الضابط النوبتجى بأنه إن لم يسلمنى إليه فإنه سوف يتصل بالوزير باعتباره مدير مكتبه. أذكر أيضًا والدى ممسكًا يدى بيد لم تتوقف عن الارتعاش على امتداد الطريق إلى بيتنا، توقفنا مرتين أو أكثر ليخرج منديله من جيبه راح ظنى إلى أنه أخرجه ليمسح به العرق، وكان ظنى خائبًا إذ كنا فى قلب موسم شتاء غير عادى البرودة. لم أعرف السبب وراء التوقف مرات فى الطريق إلا عندما وصلنا البيت وسمعت الجارة تبلغ زوجها الذى اشترك مع رجال العمارة فى استقبالنا عن دموع كانت تنهمر من خلف نظارة أبى. غلبنى الحرج لوجود أصدقاء الحى وأهاليهم.
• • •
لحظات أخرى من هذا النوع يتكرر ظهورها بشكل لافت. أذكر كثيرًا، أكثر من أى مرحلة سابقة فى حياتى، أننا كنا نلعب الكرة فاصطدمت بلاعب آخر وكانت نتيجة الاصطدام القوى أن سقطت فوق ذراعى مرتطمًا بحافة الرصيف. صرخت من شدة الألم فسمعنى من الجيران من سارع بالصعود إلى شقتنا لإبلاغ الأهل. دقائق وكانت أمى إلى جانبى فى الترام متوجهين إلى حى الفجالة حيث توجد عيادة المقدس برسوم، أشهر من قام فى ذلك الوقت بتجبير العظام. عدنا إلى البيت بذراع «مجبرة». ما أن رآها أبى وقد أحيطت بدقة وعناية فائقة بألواح الخشب إلا وراح يختفى فى غرفته حتى لا يرى أحد دموعه.
• • •
كنا وأصدقاء، وكلنا فى سن المراهقة، نقوم برحلات مشى ورغبة فى التعرف على جديد. اخترنا الصعود إلى قمم المقطم والمشى إلى المعادى وفى المرة التالية اخترنا أن نمشى حتى حلوان أملاً فى أن نعثر على أشجار الغابة المتحجرة. انطلقنا قرب الفجر من نقطة غير بعيدة عن القلعة للصعود وعند ما تصورنا أننا عند سطح الهضبة مشينا جنوبًا. تجاوزنا المعادى عند الظهيرة وسعينا بكل ثقة نحو مزيد من الجنوب. حلت ساعة المغرب وما زلنا على مرمى النظر بعيدين عن أى كثافة معمارية تشى بأننا صرنا قرب حلوان. تسرب إلينا القلق عندما بدأنا نجد صعوبة فى رؤية ما حولنا. قررنا الاتجاه غربا ونحو أى مكان نهبط معه إلى السهل المنبسط. تخبطت المسيرة ودب الخوف وهيمن القلق وقد حل الظلام ولم تعد كشافاتنا المتواضعة قادرة على التعامل معه. مرت ساعات صعبة خاصة وقد اكتشفنا أن أضواء الكشافات بدأت تخفت وأصوات حيوانات بدأت تعوى. توقفنا عن المشى عندما وصلت إلى سمعنا صفارات قوية ومكبرات صوت تأمرنا بالانبطاح أرضا. فجأة وجدنا أنفسنا أمام جنود مسلحين وسيارة جيش وتعليمات نفذناها. هبطت بنا السيارة إلى الوادى وهناك دخلنا معسكرًا للجيش. بعد قليل كنا فى مكتب ضابط بدا لى أنه صدق روايتنا. طلب منى الاتصال من هاتفه بوالدى ثم أعطيه السماعة ليتحدث إليه وقد حل الفجر. أشرقت الشمس وسيارة الجيب تنهب بنا الأرض انطلاقا من معسكر للجيش المصرى قرب المعصره فى اتجاه بيتنا. هناك وعند باب البيت كان أبى فى الانتظار محاطا ببعض الجيران.
• • •
سافرت مرة وعدت مع زوجة وسافرت مرة ثانية وعدت مع زوجة وطفل وسافرت مرة ثالثة وعدت مع زوجة وطفلين ليبدو الوالد لى فى كل مرة وقد تقدم به العمر بشكل غير حقيقته. خرجنا إلى الطريق ذات يوم أنا ومعى الوالد وابنى وما زال طفلاً. كنا فى ميدان التحرير نحاول معا عبور طريق فرعى. يد تمسك بيد الطفل والأخرى امتدت لتمسك بيد أبي. توقف الوالد عن المشى. وقف متصلبًا وغاضبًا ومحتجًا، كيف أنسى أنه الوالد، وحقه بل وواجبه أن يمسك هو بيدى ويد ابنى ليعبر بنا الطريق، وبالفعل توسطنا وقادنا وسط زحام السيارات نحو الرصيف الآخر. نظرت إلى ناحيته لأرى السعادة على وجهه متجسدة فى كل القسمات. هو الوالد هو الراعى هو الحامى لكل نسله فى كل حياته.