صامتة، دَلَفتُ من باب المكتب صباحا، وعلى غير عادتى كنت أحمل ملامح عابسة. اقتربت منى وتأمَّلَت وجهى قليلا ثم سألتنى بفضول: «أنتِ زعلانة؟»، رددت لها السؤال فى حدة: «يعنى إيه؟» ثم انتبهت لأن حدتى لا محل لها. كانت تواجهنى بعينين مستكشفتين، كأنما تستطلع حقيقة مشاعرى، أهى بالفعل صادقة أم محض تظاهر أجوف، مشاركة تقليدية.. أداء لواجب ينتهى بمجرد أن نفترق.
لم أكن أبذل جهدا فى مواراة الضيق والغضب اللذان أحملهما، أَدرَكَت من فورها أننى هنا، واحدة من أعضاء «الفريق الآخر»، أشاركها المصاب. أفرجت أخيرا عن المشاعر التى كانت تتكتمها وأطرقت برأسها ثم بدأت تواسينى.. قالت سعاد المسيحية التى أحبها كثيرا ولا أتمكن من العمل فى غيابها: «دا الجهل يا دكتورة.. جهل هانعمل إيه». كان هذا صبيحة رأس السنة الجديدة.
تركتنى فى المكتب وخرجت لتتابع عملها، رحت أفكر فى السؤال الذى طرحته سعاد فى بداية الحديث: «أنت زعلانه؟».. سؤال مدهش زادنى فوق الحزن حزنا، ليس فقط لأننى استحضرت فى مخيلتى مشهد كنيسة القديسين والأشلاء والدم يصبغ الأرض من حولها، وليس لأن أكثرية أصدقائى مسيحيو الديانة يسحقهم الأسى ويتراكم الهم فى صدورهم يوما وراء يوم، بل لأن سؤالها كان جادا.. خرج بعفوية دون تفكير أو إعداد. تسألنى سعاد إن كان موت المصلين يزعجنى، إن كان تفجير بيت من بيوت العبادة قد ترك فى نفسى أثرا سيئا.. أتساءل بدورى: ترى هل يختلف المسيحى عن المسلم عمن لا دين له فى كونه إنسانا؟..
نبهتنى سعاد بنظرتها المتفحصة وتساؤلها الموجع إلى أن الشك قد صار كامنا فى أعماق كل منا، حتى فيما يتعلق بالمشاعر الإنسانية البديهية التى لا ينبغى أن تكون محل شك أو اختبار. إنه الشك يأتى من داخلنا.. لا يد خارجية ولا أصابع أجنبية. المرارة فى الجوف صارت متوطنة، لا تلطف منها مشاهد المصافحة والأحضان، ولا يخففها إفطار الوحدة الوطنية والزيارات المتبادلة، وعناوين الصحف التى تؤكد متانة النسيج.
أفكر أن لسعاد بعض الحق فى شكها، هناك ثقوب كثيرة يصعب إخفاؤها عن العين رغم كل ما ندفع أمامها به من مشاهد جميلة رائقة. أتذكر أحد زملاء الدراسة القدامى وقد فشل فى الحصول على وظيفته الجامعية رغم استحقاقه لها.. جاءه الرفض حينها مستترا ومتخفيا وراء علل زائفة، وكنا جميعا ندرك أنه مرفوض لأنه مسيحى، وأتذكر زميلا آخرا تعطلت ترقيته للسبب ذاته، وأستاذ جامعى رفض أن يحصل الطلاب المسيحيون على مذكرة بالمواضيع الهامة للامتحان وأصر على إعطائها لمن يحملون صفة المسلمين فقط. تمر على ذاكرتى أحداث ووقائع متنوعة وعديدة عايشتها بنفسى.. لا أتمكن من تصنيفها جميعا كاستثناءات رغم محاولتى أن أفعل.
أتألم منها، وأتصور أن مدرستى التى حوت بداخلها كنيسة وجرسا وغرفة لصلاة المسلمات، كانت هى الاستثناء.. لم يشر فيها أحد يوما إلى دينه أو إلى دين الآخرين من قريب أو بعيد، لا أدرى اليوم إن كان قد أصابها شرر من تلك النار أم أنها لاتزال صامدة.
فى المقابل استدعى حديث جدتى الطويل عن صاحباتها المقربات وكن مسيحيات ويهوديات، والعلاقة شديدة القرب التى جمعتهن معا، وزياراتهن المتبادلة التى كانت تستمر أياما. فارق شاسع يتراءى لى. ترى ماذا جرى فى العقود الماضية حتى يتحول التعايش التلقائى الطبيعى إلى توجس وكره وتربص؟ ماذا جرى حتى أواجه اليوم سؤال سعاد؟..
لا شىء يأتى من فراغ، لا نهايات بغير بدايات وكل مقدمة تتبعها نتيجة منطقية مترتبة عليها. هناك شوائب كثيرة ترسبت بيننا وداخلنا دون أن تجد من يعمل على إزالتها أو على كشفها والتعامل معها، لأعوام طويلة كان هناك ما يذكيها وما يهيئ لها مساحة واسعة للنمو والانتشار. فى حضرة الفراغ الثقافى والتهميش تنكمش الثقة فى النفس وتنشأ الأفكار المتعصبة، تسهم منظومة القهر والقمع المستقرة فى خنق رحابة الرؤية وسعة الأفق، وفى القضاء على كل عقل حر يتسع للجميع.
الثقافة المعادية لأى «آخر» تجد لها مرتعا خصبا فى العقول الخائبة، يغيب الانتماء للوطن وتتأجج النزعات العنصرية والطائفية، تغذيها خطب الجمعة التحريضية، والبرامج الدينية التى تزايد على التشدد والانغلاق، والمدارس التى تربى أجيالا على الكراهية، والدولة التى تحتفظ بأوراق حَرِجَة للمساومة على مصالح وتوازنات.
ربما لن نأتى بشىء جديد، هى عادتنا التى لا تنقطع. نترك لب الأزمة لنناقش انعكاساتها، ننسى الأسباب ونتشبث بالنتائج نقتلها فحصا وبحثا، نشجبها ونندد بها صباحا ومساء، نطلق الأغانى والأشعار والهتافات، ندافع عن مثاليتنا باستماتة، ندارى الأعراض ونخفيها حتى يضنينا التعب، ونشعر بأننا قد أدينا واجبنا كاملا. مع هذا سوف يبقى سؤال سعاد، وسوف يتسع الجرح ويظل المرض الأصلى دون دواء ما دمنا لا نجرؤ على الاعتراف بوجوده ومواجهته.
هذا العام وللمرة الأولى منذ ما يزيد على الخمس عشرة سنة، لا أتمكن من قضاء عيد الميلاد وسط الأصحاب. على رأس الشارع المؤدى إلى كنيسة مار جرجس وقفت، منعنى الضابط ذو البذلة الأنيقة من الدخول بعد أن طالع بطاقة هويتى.