تسود قناعة راسخة لدى العديد من السياسيين وعموم أفراد الطبقة الوسطى أن «الناس العادية» لا يهمها سوى أكل العيش والاحتياجات المادية، وأن قضايا الحريات والحقوق الشخصية رفاهية لا تهم سوى فئة قليلة من أعضاء النخبة الاجتماعية. لكن لو دققنا فى نمط انتهاكات حقوق الإنسان فى الفترة الأخيرة (بل فى العقود الأخيرة) لا بد أن نرى خطأ هذه المقولة.
ولنأخذ مثلا قضية حمام باب البحر وكم الانتهاكات المهول الذى تعرض له ضحاياها من أول الكمين الإعلامى وتصويرهم والكشف عن شخصياتهم إلى طريقة القبض عليهم وتجريسهم عرايا فى الشارع وصولا إلى أساليب إظهار البراءة من تهمة «ممارسة الفجور» وهو الفحص الشرجى الذى يعد فى حد ذاته انتهاكا مهينا، وقد أتى فى حكم البراءة أن المحكمة «اطمأنت إلى تقرير الطب الشرعى الذى أثبت يقينيا أن 23 متهما من ضمن المتهمين لا توجد بهم أى مظاهر تدل على إتيانهم من الخلف لواطا» حسب جريدة البداية بتاريخ 13 يناير 2015.
•••
دعونا نقر أولا أن لا أحد فى أمان فى هذا الوقت الذى تغيب فيه جميع ضمانات العدالة بما فى ذلك أفراد النخبة، لكن فى الغالبية العظمى من الحالات تأتى الاستباحة على قدر ما تعتبرك السلطة بلا دية. وليس السلطة فقط وإنما أيضا ظهيرها المجتمعى الشره إلى الفضائح والخوض فى ذمم الناس وأعراضها تحت دعاوى حماية الأخلاق. ولم تكن منى عراقى مذيعة برنامج «المستخبى» ولا قناة القاهرة والناس لتجرؤ على نصب ذلك الكمين فى حمام أو مركز تجميل فى فندق خمس نجوم. ففى وطن بلا حريات ولا حقوق دائما ما تدفع الحلقات الأضعف الثمن الأكبر، ولا يقتصر ذلك على الفقراء أو ما يسمى بعامة الناس وإنما ينطبق أيضا على الفئات التى تعتبرها السلطة وظهيرها المجتمعى غير مستحقة لحقوق المواطنة الكاملة مثل الأقليات الدينية والنساء والفتيات والمثليين، كما انضم أخيرا إلى قائمة المغضوب عليهم الملتحون والمنتقبات.
•••
مع اقتراب الذكرى الرابعة لانطلاق ثورة 25 يناير علينا أن نتذكر أنها كانت بالأساس ثورة الكرامة الإنسانية. وكانت الدعوة الأولى للثورة «ضد التعذيب والفقر والفساد والبطالة» بهذا الترتيب قبل أن يتطور الشعار الأساسى إلى «عيش حرية كرامة إنسانية» ثم استقر على «عيش حرية عدالة اجتماعية» ربما لدواعى سهولة الهتاف رغم أن الشعار الأخير ليس الأبلغ لأن العدالة الاجتماعية تتضمن وتفترض «العيش» بطبيعة الحال. ورغم عدم صمود عبارة «الكرامة الإنسانية» فإنها فى الحقيقة العبارة الجامعة للمطالب، فلا كرامة إنسانية بلا عيش وحرية وسواء هتف بها الناس أم لم يهتفوا تظل الكرامة الإنسانية هى مطلب الثورة الجوهرى. يناير هى ثورة حقوق إنسان بامتياز وبالمعنى الكامل والشامل: حقوق شخصية وسياسية واقتصادية واجتماعية. ويبدو فى المرحلة الحالية أن الأساس الأصلح للاصطفاف ليس هو الانتماء الأيديولوجى إلى اليسار أو اليمين أو ما إلى ذلك وإنما هو الإيمان بالكرامة الإنسانية والاستعداد لخوض معركة الحريات بما فى ذلك الحريات الشخصية.