الواضح أن مجلس النواب متجه إلى إقرار كل القوانين الثلاثمائة والأربعين، الصادرة خلال العامين الماضيين ــ ربما باستثناءات معدودة ــ من منطلق أن ضيق الوقت لا يسمح بغير ذلك، وأن البرلمان لديه فرصة تعديل ما يشاء منها فى المستقبل.
ومع أن غالبية هذه القوانين، قد رتبت أوضاعا يصعب الرجوع فيها، مثل تلك المتعلقة بموازنات الهيئات العامة، وبامتيازات البترول، وبالمعاشات، وأن كثيرا منها ليس بالأهمية التى تستدعى المراجعة، إلا أنه يظل هناك ما يتراوح بين عشرة وخمسة عشر قانونا، كان ينبغى أن تأخذ حظها من النقاش الموضوعى، بسبب أهميتها البالغة على المجتمع (قانون الخدمة المدنية)، أو عرقلتها للنشاط الاقتصادى (قانون الاستثمار، وقانون المنطقة الاقتصادية لخليج السويس)، أو تعارضها مع الدستور (القوانين الجنائية المقيدة للحريات والمجتمع المدني). وقد ذكرت فى مقال الأسبوع الماضى، تفاصيل هذه القوانين، فليس هناك داع لتكرارها هنا مرة أخرى.
لذلك، فإن الإقرار الشامل لهذا العدد الكبير من القوانين، يبعث على القلق من أن يكون مجلس النواب قد بدأ نشاطه بالتخلى عن ممارسة دوره فى مراجعة القوانين الصادرة من رئيس الجمهورية، على النحو الذى رسمه الدستور. وما يؤكد هذا القلق، أن المطالبين بضرورة اعتماد القوانين المعروضة دون مناقشة جدية ــ سواء من داخل المجلس أو من الحكومة أو من الإعلاميين وصناع الرأى ــ قد استندوا إلى ثلاثة فروض غير صحيحة لتبرير ذلك:
الفرض الأول: أن الدستور لم يمنح أعضاء المجلس سوى خيارين فقط، إما إقرار القانون دون تغيير، أو رفضه بالكامل. وعندئذ تزول آثاره السابقة، مع ما يترتب على ذلك من اضطراب فى الأوضاع القانونية والاقتصادية القائمة. والحقيقة أن هذا تفسير خاطئ للمادة (١٥٦) من الدستور، والتى تعطى مجلس النواب خيارا ثالثا، وهو رفض القانون وإعادته للمناقشة البرلمانية، ولكن مع الحفاظ على آثاره السابقة، وبما لا يؤدى إلى المساس بالأوضاع والحقوق القانونية والاقتصادية التى ترتبت عليه. والنص الدستورى واضح بلا شك وفيه حكمة شديدة. ولكن تم تجاهل هذا الخيار الثالث من أجل تأكيد حتمية إقرار القوانين كلها.
الفرض الثانى: أن رفض بعض التشريعات الرئيسية فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى، سوف يعرقل مسيرة الإصلاح، ويجعل المجلس يبدو كما لو كان غير مقدر للظروف الاقتصادية الصعبة التى تعانى منها الناس. بل إن بعض المسئولين ذهبوا إلى القول بأن رفض أى من القوانين الاقتصادية، يمكن أن يعرقل أو يضيع على مصر فرصة الحصول على المعونات والقروض الأجنبية التى تم الاتفاق عليها. وهذا أيضا فرض غير مقبول، لأن البرلمان هو صاحب السيادة فى التشريع، ولا تُفرض عليه القوانين بهذا الشكل. أما التهديد بضياع المعونات والقروض الأجنبية فهو غير موفق، بل يدعو للتأكيد على ضرورة تدخل البرلمان لمعرفة الشروط والقيود المرتبطة بهذا التمويل، والتى لم يتم الإفصاح عنها للرأى العام.
وأما الفرض الثالث: فهو أن دور البرلمان فى مراجعة القوانين الثلاثمائة والأربعين الصادرة منذ ١٨ يناير ٢٠١٤ وحتى ٩ يناير ٢٠١٦، لا يعدو أن يكون مجرد إقرار إجرائى يجب القيام به، من أجل استكمال الشكل الدستورى المطلوب، ولكن دون أن يعنى التصدى لجوهر هذه القوانين ومراجعتها موضوعيا، وإلا كان تشكيكا وانتقاصا من قدر الحكومة ورئيس الجمهورية اللذين أصدرا هذه القوانين. وهذه مغالطة كبرى، لأن أساس الدستور هو التوازن بين السلطات، وقيام البرلمان بمراقبة عمل السلطة التنفيذية، دون أن يكون فى ذلك انتقاص لها أو التقليل من شأنها، وإلا فما الحاجة لبرلمان من الأصل؟
كثير ممن تابعوا جلسات البرلمان الأولى التى جرى فيها حلف اليمين، وانتخاب الرئيس والوكيلين، انزعجوا من ضعف واضطراب إدارتها، وتوجسوا من أداء ومصداقية المجلس مستقبلا لو استمر على هذا الحال. ومع ذلك فقد كان رأيى ــ ولا يزال ــ أن الوقت لا يزال مبكرا للحكم على مجلس تشريعى بهذا الحجم، وأن كثيرا من الأصوات الصاخبة ستهدأ بعد قليل، ويحل محلها نواب جادون يبحثون عن تحقيق الصالح العام، وليس الظهور الإعلامى. ولكن هذا لن يتحقق إلا لو كان المجلس حريصا على استرداد سلطته التشريعية بالكامل، متمسكا بمناقشة كل ما تعرضه الحكومة بالقدر الواجب من الجدية والتفصيل، ورافضا للانصياع للضغوط، ولو جرى تغليفها باعتبارات ضيق الوقت، وسرعة الإنجاز، وضرورة مساندة الحكومة.
أتمنى أن يمارس البرلمان سلطة المراجعة الممنوحة له دستوريا، ليس لعرقلة النشاط الاقتصادى، ولا للإخلال باتفاقات دولية، ولا للانتقاص من قدر السلطة التنفيذية، ولكن لإلغاء عدد من التشريعات المعيبة والمخالفة للدستور الصادرة خلال العامين الماضيين، والتى ذكرتها أعلاه، ولرد الأمور إلى أصلها، وهو أن مجلس النواب هو صاحب السلطة التشريعية دون منازع.