ابتليت مصر منذ نشأت الحياة الحزبية قبل قرن من الزمان، بمجموعات من أصحاب المصالح الذين لا يملكون أى رؤية أو عقيدة سياسية، ولا يبغون سوى رضا الحكومة، يهادنونها ويوالسونها ويسترون عورتها ويبصمون على قراراتها ويزينون لها سوء أعمالها، فإن مالت يسارا شكروا لها انحيازها للشعب الكادح وإن انقلبت يمينا بشروا بعهد الانفتاح الجديد.
نكبة مصر الحقيقية فى تلك الطبقة التى دأبت على مسايرة كل الحكام، ودعمت فكرة أن الحاكم هو مصدر السلطات، أما الشعب فلا يصح أن تترك له إرادة فى ولاية الحكم أو توجيهه، بل يجب أن يحكم بواسطة سلطة تفرض عليه فرضا، دون أن يكون له أى دور فى اختيارها أو سقوطها، وبعبارة أخرى لا محل لما يسمونه بالحكم الدستورى، وإذا كان لابد من نظام دستورى فليكن نظام صوريا.
«هذا الضرب من الحكم هو من أنواع الحكم المطلق، وأساسه إهدار حقوق الشعب والرجوع به إلى نطاق الذل والعبودية، وهو نظام يمتنع معه كل تقدم سياسى أو أخلاقى فى البلاد» بتعبير المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية».
كان أول الأحزاب التى نشأت من رحم السلطة هو حزب الإصلاح الذى أسسه الشيخ على يوسف صاحب ورئيس تحرير صحيفة المؤيد، والمدعوم من الخديوى عباس حلمى ليواجه الحزب الوطنى الذى أسسه الزعيم مصطفى كامل، انتهى هذا الحزب بوفاة صاحبه وعزل عباس مع بدايات الحرب العالمية الأولى.
وصف الرافعى حزب الاتحاد الذى أسسه يحيى باشا إبراهيم رئيس وزراء مصر بأنه سلاح الملك فؤاد فى مواجهة حزب الوفد صاحب الشعبية والأغلبية فى أول انتخابات برلمانية أجريت بعد إقرار دستور 1923، «تألف الحزب الجديد على قاعدة أنه حزب الولاء للعرش، يؤمن على قرارات الملك، يدعم تعطيل الدستور الذى حد من صلاحياته وفرمان حل البرلمان الذى ينازعه سلطاته».
وبعد حزب الاتحاد، جاء حزب الشعب الذى أسسه اسماعيل باشا صدقى «عدو الشعب» وصاحب قرار إلغاء دستور 1923، والذى حكم البلاد بالحديد والنار. ثم اندمج الحزبان ليشكلا حزب الاتحاد الشعبى، بهدف إحكام قبضة الملك على السلطة وتوسيع صلاحياته التى حددها دستور 1923، واستخدم قادة الحزبين لتحقيق ذلك كل الموبقات السياسية، عطلوا الدستور ثم ألغوه وتلاعبوا بالقوانين وزوروا انتخابات البرلمان حتى يسبح بحمد الملك ويصدق على كل قراراته وتوجهاته.
وفى منتصف سبعينيات القرن الماضى أعاد الرئيس أنور السادات بعث الحياة الحزبية، وأسس حزب مصر العربى الاشتراكى فى عام 1976. فى البداية، تولى رئيس الوزراء آنذاك ممدوح سالم قيادة الحزب، وفاز الحزب فى ذلك العام فى الانتخابات التشريعية بأغلبية ساحقة. وبمجرد إعلان السادات عن انشاء الحزب الوطنى الديمقراطى فى عام 1978، وتزعمه إياه، حتى شهد حزب مصر نزوحا جماعيا، وفى أقل من 24 ساعة هرع جميع أعضاء حزب مصر إلى الحزب الوطنى الجديد.
جمع الحزب الوطنى «النطيحة والمتردية وما أكل السبع» من أصحاب المصالح وحملة المباخر، لقى السادات ربه في حادث المنصة الشهير، وورث التركة نائبه مبارك فالتفت حوله دوائر دعم السلطة تبرر وتزين وتؤمن على من لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و«عندما سقط النظام الفاسد، سقط الحزب الذى أفسده والذى ثبت باليقين إفساده للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والذى استمر ملتحفا بسطوتها مستغلا أموالها، بل اختلطت أموال الدولة مع أمواله»، بحسب حيثيات حكم حل الحزب بعد ثورة 25 يناير التى أسقطت رأس السلطة، لكنها لم تتمكن من تفكيك منظومة الإفساد التى توارت وتربصت لتنتظر على من سيرسى مزاد السلطة حتى تقفز إلى ركابه.
لو استقرت الأمور لجماعة الإخوان وتمكنت من البقاء فى حكم مصر لأطلق أعضاء تلك المنظومة اللحى وحفوا الشوارب وسبحوا بحمد المرشد، فلولا 30 يونيو لانضم ورثة الحزب الوطنى وما سبقه من أحزاب الندامة إلى حزب الحرية والعدالة.
ولما صارت الفرصة مواتية وجد هؤلاء ضالتهم فقفزوا على مستقبل الوطن، يدّعون دعم مصر. والمستقبل ومصر منهم براء، فهؤلاء لا يدعمون إلا السلطة ولا يبتغون سوى رضائها، ليصلوا إلى مبتغاهم، غير عابئين بما جرى أو لحق بأسلافهم.