اقترضَ.. يقترضُ.. فهو راكعٌ - سامر عطا الله - بوابة الشروق
السبت 28 سبتمبر 2024 12:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقترضَ.. يقترضُ.. فهو راكعٌ

نشر فى : الإثنين 19 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 19 مارس 2012 - 9:30 ص

بعد سفر «المتهمين» الأجانب فى قضية ما يسمى «التمويل الأجنبى» لمنظمات المجتمع المدنى، تناولت عدة صحف تصريحات منسوبة إلى مصادر مقربة لدوائر صنع القرار أن الإفراج تم فى إطار صفقة أبرز ملامحها هو الإسراع بالموافقة على قرض صندوق النقد الدولى والضغط على دول الخليج لتقديم معونات ومساعدات عاجلة مع البدء فى تمويل مشاريع استثمارية واسعة النطاق فى مصر. القضية فى حد ذاتها دوافعها سياسية بالدرجة الأولى وبها درجة كبيرة من الاستخفاف بالرأى العام كما بها انتقاء للمنظمات المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية، فحتى الآن لم يتم تحريك التحقيقات مع منظمات أخرى تلقت أموالا من دول الخليج منها منظمات محسوبة على التيار السلفى وأخرى محسوبة على ابن الرئيس المخلوع.

 

القضية ذاتها وما نجم عنها مشهد صغير ومهم من سلسلة من المشاهد المتلاحقة فى المشهد السياسى والاقتصادى المصرى الذى أضحى شبيها بفيلم رتيب سيئ التأليف ردىء الإخراج. فمشهد الطائرة العسكرية الأمريكية القابعة فى مطار القاهرة فى إنتظار تهريب «المتهمين» الأجانب لا ينفصل عن مشهد زيارة بعثة صندوق النقد الدولى فى بداية العام كما لا ينفصل عن مشهد الاتصال التليفونى بين الرئيس الأمريكى والمشير بعد سفر البعثة ذاتها. نفس الفيلم أنتج  من عشرين عاما بعد حرب «تحرير الكويت» حيث تمت مبادلة اشتراك مصر فى الحرب مع إسقاط جزء من ديونها الخارجية وبداية الاقتراض من صندوق النقد الدولى فى إطار ما يسمى برنامج الإصلاح الهيكلى. والمضمون واحد لم يتغير طوال العقود الماضية: تبعية سياسية وركوع وانبطاح فى مقابل إقراض الاقتصاد المصرى وتنفيذ برامج اقتصادية أقل ما يقال عنها إنها زادت اعتمادنا على الاقتراض، كما  كرست أيديولوجية اقتصادية دفعت ملايين المصريين تحت خط الفقر وحرمتهم من الحد الأدنى من الكفاف وحولت «خبراء» الصندوق  إلى المرجعية الاقتصادية الوحيدة فأصبحت السياسات المفروضة مقابل الاقتراض هى الوصفة المستخدمة دائما وابدا. ويقتصر الحوار بين الاقتصاديين إلى المفاضلة بين الاقتراض من الداخل أوالخارج، كأنه كتب علينا أن يبقى اقتصادنا رهينة الاقتراض، وإن الجدلية هى جهة الإقراض وليس كيفية إعادة بناء اقتصاد منتج وليس كيفية هيكلة الموازنة لتنحاز للغالبية العظمى التى ظلت ولاتزال مهمشة. وبالطبع تنتهى المقارنة إلى تفضيل الاقتراض الخارجى لأن سعر الفائدة أقل ولأن الاقتراض من الداخل يقلل الموارد المتاحة للاستثمار الداخلى. هذه الآراء لا تستدعى تاريخ السياسات التى فرضت على حكوماتنا المتلاحقة  خلال العقود الماضية وتتجاهل المآسى التى مرت بها دول أمريكا اللاتينية وآسيا بسبب برامج الصندوق. فالانخفاض الحالى لأسعار الفائدة فى الأسواق العالمية مؤقت ومرهون بالركود الاقتصادى العالمى، وستعاود أسعار الفائدة ارتفاعها بمجرد خروج اقتصاد الدول الكبرى من حالة الركود. ساعتها سنجد أنفسنا مطالبين بدفع أضعاف ما كنا ندفعه من خدمة الدين، مما يزيد من التزامات مصر الخارجية والعجز الخارجى. وبالطبع نلجأ مرة أخرى لصندوق النقد لينقذنا من المأزق الذى وضعنا  أنفسنا فيه. وليس أسهل من ربط  بين الحالة الإقتصادية الحالية وبدء التعامل مع صندوق النقد، فنحن فى هذه الحالة من الاقتراض المزمن منذ بدأنا تنفيذ شروط الصندوق فى عام ١٩٩٠. فبعد أكثر من عشرين عاما لايزال الاقتصاد المصرى مثقل بالديون الخارجية ولايزال عاجز عن الخروج من الدائرة المفرغة من الاقتراض ولايزال يدفع سنويا تحت بند خدمة الدين ما يوازى تقريبا ميزانية الصحة أو التعليم. ولم تدم كل فترات النمو الاقتصادى غير بضعة سنوات قليلة ليعاود الركود والانكماش، وليته كان نموا متوازنا بل كان نمو فاضح فى انحيازه، فى حين أن دولا نامية أخرى شهدت مراحل نمو اقتصادى امتدت لعقود تزامنت مع تنمية بشرية وإعادة هيكلة اقتصادية وتوزيع للدخل فأصبحت قوة اقتصادية وإقليمية. الحجة التى تساق دائما أن كل الدول فى العالم تقترض من الخارج هى حجة واهية،  فبدون إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى ليتحول إلى اقتصاد منتج سنبقى دائما فى حاجة إلى الاقتراض. ولن تبدأ إعادة الهيكلة إلا بالتخلى عن المفاهيم الاقتصادية التى أبقت الاقتصاد المصرى فى هذا الوهن طوال العقود السابقة. نحن بحاجة إلا التخلى عن ثقافة «الاقتراض هو الحل»، نحن بحاجة إلى ترتيب أولوياتنا الإقتصادية والتنموية وتقليل إعتمدنا على الاستيراد، نحن بحاجة إلى موازنة تخدم غالبية المصريين وتستثمر فى مشاريع سريعة الأجل تحفز النشاط الاقتصادى.      

 

وقد أثبتت قضية «التمويل الأجنبى» (مرة أخرى) ما علمتنا إياه الأيام مرارا أن صندوق النقد أداة تستخدم لفرض مواقف سياسية على الدول التى تتعامل معه.  صندوق النقد لا يقرض لوجه الله والوطن فهو يمثل مصالح قوة سياسية تتعارض تعارضا واضحا وفاضحا مع مصالح الدول النامية وشعوبها الفقيرة. ويكفى النظر إلى منظومة إدارة الصندوق، فالقرارات المهمة مثل الموافقة على برامج الإقراض تحتاج إلى موافقة الولايات المتحدة الأمريكية التى تمتلك وزنا تصويتيا فى المجلس التنفيذى للصندوق يوازى حق النقض «الفيتو» فى مجلس الأمن. إغفال وتجاهل هذه الحقيقة يورطنا فى مأزق اقتصادى وفى ركوع سياسى. 

 

●●●

 

تعود بعثة صندوق النقد الدولى مرة أخرى إلى مصر هذا الأسبوع. ومن المتوقع أن تقترح حكومة الجنزورى خطتها الاقتصادية على البعثة دون طرحها لنقاش العام. فلا أتصور أن هناك موضوعا أهم من مناقشة الإجراءات الاقتصادية التى ستتبعها الحكومة فى مقابل موافقة صندوق النقد وجهات أخرى على إقراضنا. فكيف توافق الحكومة على هذا القرض دون مناقشة فى جلسة عامة فى مجلس الشعب،  وأجزم أن خطة الحكومة لن تخرج بأفكار جديدة بل ستحتوى على أفكار وسياسات قديمة مغلفة تغليفا جديدا. فبدل فرض ضريبة تصاعدية على الدخل تفرض ضريبة على الاستهلاك تحت مسمى ضريبة القيمة المضافة، وبدل فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية تستمر وتتوسع الحكومة فى تقديم «حوافز الاستثمار» التى أثبتت الأيام مدى فشلها فى كسر حدة البطالة أو خفض العجز التجارى الخارجى. كما لا استبعد أن يلمح صندوق النقد على ضرورة تخفيض سعر العملة المصرية لتنشيط الصادرات، فتقع تكلفة خفض العملة على غالبية المصريين فى صورة تضخم إضافى وارتفاع أسعار سلع أساسية كالغذاء.

 

لا تقترضوا باسمى ولا تحملوا كاهلى وكاهل المصريين بديون لم يستشاروا فيها. ولا تحملوا ضميرى وضمير هذه الأمة وصمة عار ركوع القائمين على إدارة شئونها.

سامر عطا الله أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة الأمريكية
التعليقات