سراب الاستثمار الأجنبى - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سراب الاستثمار الأجنبى

نشر فى : الإثنين 18 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 18 مارس 2013 - 8:00 ص

كل القوى السياسية تقريبا فى انتظاره، من الإخوان للبرادعى لعمرو موسى. كل الخطط الاقتصادية تسعى له وتنبنى عليه. بل إن السياسة نفسها يجب تقليمها من أجل عيون مناخ الاستثمار الأجنبي: التصالح مع رموز النظام السابق من أجل بعث ثقة المستثمرين الأجانب، المشروعات الكبرى وخططها فى قناة السويس من أجل جذبهم للمجىء وضخ أموالهم عندنا، مشروع قانون سريع لإصدار الصكوك كخطوة على طريق استقدام الـ200 مليار دولار التى وعدتنا بها حملة الرئيس مرسى الانتخابية. أما السياسة الخارجية فتتحدد قبل كل شيء بتبعاتها المباشرة الآنية على التدفقات التى ستنتج عنها.

 

ثم تخبرنا جريدة الأهرام على صدر صفحتها الأولى السبت بأن الحكومة انتهت من اعداد مقترحاتها للتعديلات الدستورية، التى شاركت فيها 15 وزارة، وتشتمل على «اقتراح بإلغاء المادة 29 من الدستور، التى تنص على أنه لا يجوز التأميم إلا لاعتبارات المصلحة العامة، وبقانون، ومقابل تعويض عادل. وبررت التعديلات هذا الإلغاء بأن وجود هذه المادة قد يولد خشية لدى المستثمر، خاصة الأجنبى، من احتمال تأميم بعض المشروعات فى مصر»، وذلك بحسب نص الخبر.

 

هل يجب فعلا أن نعول على الاستثمار الأجنبى لهذا الحد؟ هل يحمل تلك الخصائص السحرية التى يمكنها أن تحقق النهضة الاقتصادية التى تحتاجها مصر الثورة ويحتاجها المصريون؟ الحقيقة أن هذه الفكرة تقوم على عدد غير قليل من الأساطير والأكاذيب وفساد الأولويات.

 

تجربة نيجيرية مصرية جدا

 

فى الأول من مارس نشرت وكالة رويترز تقريرا عن الاستثمار الأجنبى المباشر فى نيجيريا، والذى يزيد بشكل مضطرد بفعل النمو الاقتصادى الذى يصل إلى 7% ويُتوقع أن يظل حول هذا المعدل فى الأربع سنوات القادمة مصحوبا بواحد من أقل معدلات الاستدانة بالمعايير العالمية. ويرى صندوق النقد تصاعدا منتظرا فى الاستثمارات الأجنبية «الهادرة»، بحسب وصف الوكالة، التى تشير لتحسن تصنيف نيجيريا الائتمانى وتراجع تكلفة الإقراض لها مع ارتفاع احتياطيات البلاد من النقد الأجنبى لأعلى مستوياتها منذ 4 سنوات، بينما صعدت أسعار الأسهم منذ بداية العام بـ 18%. لكنها تلاحظ أيضا أن هذه الاستثمارات تتركز فى قطاع النفط ولا تمتد إلى القطاعات الخالقة للعمالة. بل إن تقرير الوكالة يرصد تزامنا بين ارتفاع الاستثمار الأجنبى وبين ازدياد معدل الفقر المدقع  سوءا، وليس العكس. حيث صار 60.9% من المواطنين (100 مليون شخص) غير قادرين على توفير تكلفة الاحتياجات الأساسية من الطعام والملبس والمأوى مقارنة بـ 54.7% فى 2004، بينما معدل البطالة الرسمى 23% يتضاعف بين الشباب. إذا الاستثمار الأجنبى وتدفق الأموال من الخارج لا يصنعان، بالضرورة، ولا أوتوماتيكيا، لا تنمية ولا تشغيل ولا عدالة اجتماعية.

 

بل إننا شاهدنا شيئا مثيلا فى مصر نفسها قبل ذلك. حيث تزامن النمو بمعدلات الـ 7% فى سنوات حكومة نظيف مع ارتفاع الاستثمار الأجنبى لذروة تجاوز فيها صافى تدفقاته فى إحدى السنوات 13 مليار دولار. لكن هذا تزامن مع قصور هائل فى التشغيل ولم يترك أثرا دائما على معدل الاستثمار، فارتفع قليلا ثم عاد للتراجع سريعا. كما أنه بحسب تقرير هام صدر عن مجلس أمناء هيئة الاستثمار فى 2008 كان يزاحم الاستثمار العام والاستثمار المحلى ويطردهما بدلا من التكامل معهما. العبرة أيضا بأشياء كثيرة أخرى إذا أردنا التنمية: هل هذه الاستثمارات تنشئ أصولا إنتاجية جديدة أم تستحوذ على أصول موجودة بالفعل؟ وفى الحالة الثانية هل تقوم بتطويرها ونقل معارف جديدة للقطاع المحلى وكوادره أم أنها تخترق سوقنا من أجل حصة فيه؟ وفى الحالة الأولى هل الأصول الجديدة تخلق فرص عمل جديدة أم أنها كثيفة رأس المال تكلف فيها فرصة العمل ملايين الجنيهات كما حدث فى الإسمنت والحديد؟ وإذا استوفت الإيجابى مما سبق، هل هى تنتظم فى سياق استراتيجية صناعية تتحدد وفق رؤية ديمقراطية تنموية عادلة اجتماعيا وسياسيا؟ أم أنها تذهب كيفما اتفق بحسب مصالح وأهواء الشركات والدول التى تضخها؟

 

طيب وهل يأتى الاستثمار الأجنبى إلا إذا تحققت مصالح وأهواء من يضخونه؟ الحقيقة أن تجربة الأسواق الناشئة والاقتصادات الصاعدة تقول بوضوح إن التدفقات الكبرى لا تأتى فتصنع التنمية، وإنما تذهب حيث هناك تنمية صاعدة. وساعتها تفرز الحكومات النابهة ذات الرؤية ما هو صالح منها وما هو طالح، ولا تعمل بطريقة كله عظيم كله مطلوب التى يقودنا إليها سياسيونا. بل إن هذه الاستثمارات التى تسارع بالخروج، إذا لاحت بوادر تعثر، غير منزهة عن سياسات القوى الكبرى، وتنسق معها فى ساحة السياسة والهيمنة. كما أن الاستثمارات الأجنبية،  حتى المنتج الإيجابى منها، تتحول من أثر إيجابى على ميزان المدفوعات حين يدخل المال مرة أو مرات قليلة إلى أثر سلبى لاحقا حين تتواصل عمليات تحويل الأرباح للخارج سنة وراء سنة فتزيد الضغوط على العملة المحلية وميزان المدفوعات (كما حدث فى تجربة ماليزيا، أو ما دفع الجزائر لفرض شرط إعادة استثمار نصف الأرباح محليا).

 

وعندنا مثال الاستثمار الأجنبى فى الإسمنت المصرى: سيطر بالأساس على أصول موجودة فى صناعة، الاستثمار الجديد فيها يشغل بالكاد مئات العمال، وانتعشت الاحتياطيات حين دخلت الاستثمارات لأول مرة، لكن إذا حسبنا الأثر على التدفقات المالية بعد الاستفادة من الغاز المدعوم والطلب المحلى والعمالة الرخيصة وإعادة الهيكلة التى قامت بها الحكومة للشركات قبل أن تخصخصها، نجد أن هذه الاستثمارات صارت تصدر رأس المال بالعملة الصعبة لمراكز هذه الشركات فى روما وباريس وأثينا ومكسيكو سيتى، بينما أسعار الإسمنت المحلية تشوبها ممارسات احتكارية حكم فيها القضاء بالإدانة قبل الثورة.

 

كذبتان

 

يبنى الخطاب المهيمن حول الاستثمار الأجنبى نفسه فى مصر على كذبتين: الأولى هى أن فى انتظارنا مليارات بشرط أن نمهد الأرض ونطمئن المستثمرين ببذل الغالى والرخيص، وأنه لا طريق إلا هذا حتى قبل أن يكون لدينا سياسة صناعية ورؤية تنموية، وأن الأخيرتين لا تقومان دون الاستثمار الأجنبى. (طبعا بعد التأكيد على أن الدولة لا ينبغى لها أن تستثمر ولا يمكنها أن تؤمم برغم أن هذا هو ما فعله أوباما مع جنرال موتورز فأنقذها بتأميمها حتى لو كان الاستثمار المحلى الخاص جبانا وقاصرا). وتنبنى هذه الكذبة على أن لنا نصيبا غائبا من كعكة تدفقات الاستثمار الأجنبى العالمية. لكن أرقام برنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الأونكتاد تكذب هذا: فقد تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر العالمية 18% فى عام 2012 عند معدلات هى الأقل منذ 10 سنوات بالنسبة للدول المتقدمة بينما تزداد المنافسة الشرسة على القليل المتبقى مع الاقتصادات الصاعدة فى آسيا وأمريكا اللاتينية. والملاحظ هنا أن كبرى الدول المستقبلة للاستثمارات هى دول مصدرة لها أيضا.

 

ويرتبط بهذا الكذبة، التى تروج للحل السحرى فى الاستثمار، كذبة أخرى تقول إن الاستثمار الأجنبى فى مصر توقف بسبب الثورة، وإن علينا أن نفعل ما بوسعنا بشأنه من أجل ضمان عودة الرواج. والحقيقة أنه وفقا لأرقام البنك المركزى المصرى، فقد دخلت مصر فى 2011/2012 استثمارات أجنبية قدرها 11.5 مليار دولار يضاف إليها 2.2 مليار دولار فى الربع الأول من العام المالى الحالى، لكن خرجت فى الوقت نفسه تدفقات استثمارية من مصر للخارج (منها تصفية مصريين لأصولهم الاستثمارية لتهريب ثرواتهم أو تحويلها لدول أخرى دون أى رقيب) تقدر بـ 9.6 مليار دولار جعلت صافى الاستثمار الأجنبى يتراجع إلى 1.9 مليار دولار فقط، بينما فى الربع الأول من العام المالى الحالى بلغ الصافى 108 مليون دولار فقط بعد تدفقات للخارج بـ2.1 مليار دولار. إذا هناك مال يجيء لكن هناك مال يخرج.

 

الاستثمار الأجنبى ليس حلا سحريا وليس أصلا طريقا للتنمية ولا العدالة الاجتماعية بما لا يفترق عنه عادة من سياسات فتح الأسواق وخصخصة الشركات وانسحاب الدولة وتراجع التشغيل والخدمات العامة. هذه سياسات جربناها وفشلت، وليس فقط لأن من طبقوها كانوا فاسدين، وحان وقت تجاوزها.

 

•••

 

فى مسرحية السراب للكاتب السورى العظيم سعدالله ونوس، يعود المهاجر عبود إلى قريته فينشئ منتجعات سياحية ومحال سوبر ماركت، ويشترى الأرض بعشرة أضعاف ثمنها، ويحدث تأثيرا كبيرا فى القرية  لتتحول إلى سوق كبيرة، فيها تجارة واسعة، ومشروعات سياحية كبيرة وتأخذ مساحة كبيرة على الخريطة الإعلامية الرسمية، وفى خلال ذلك تتغير النفوس. وتنتهى المسرحية بأن يهرب عبود إلى الخارج، بعدما باع مشروعاته بثمن كبير لعدد من المسئولين الحكوميين.

 

تتوقع مريم الزرقاء، التى تعيش فى بيتها الريفى كل شىء. وقرب النهاية، وبعد أن بدا كل شىء يقترب من توقعها تصف مريم فى مناقشة، مع مثقف القرية بسام، الحال الجديد: «ستخيم على القرية غواية لا تقاوم،.. أرى أشجارا تخلع خضرتها، تتفحم». تترحم على الأيام الخوالى فيذكرها بأن تلك كانت أيام الفقر الكافر قائلا: «لا هذه تستحق التهليل، ولا تلك تستدعى الترحم. ولو توفر لنا الوعى والإرادة، لوجدنا الطريق الصحيح»، وهو طريق موجود وممكن.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات