فى رحلة ميكروباصية طويلة حيث تجتمع كل طبقات المجتمع، لا فرق بين طبقة وطبقة، وحدت بيننا كلنا أزمة السولار والبنزين فركن البعض سياراته وكهن البعض الآخر موتوسيكلاته وباع الباقون فيزبهم.. وأصبح الميكروباص علبة سردين واحدة تجمعنا كلنا. وبينما أحدهم يفتح جريدته على إحدى الصفحات اللى بيتوسطها صورة شخصية بارزة من شخصيات الحزب الحاكم (آه والله بقى اسمه الحزب الحاكم برضه لو أنت مش واخد بالك) وإذ بطفلة صغيرة فى الصف الأخير يحملها أبوها على قدميه تشير بذراعها الصغير المكلبظ، وتصيح فى نبرة طفولية لكنها واثقة تمام الثقة «خروووووف»! فى تلك اللحظة تجمدت الصورة تماما وكأن أحدهم ضغط على زرار التجميد فى الريموت، توقفت كل حركات الركاب اللى كانوا من لحظة واحدة أسرة سعيدة تتفاعل مع بعضها، خطف البعض نظرة لصحاب الجريدة ولما لاحظ دقنه الخفيفة وملامح وشه الجادة توقع أنها مش هتعدى على خير. والبعض الآخر خطف نظرة سريعة للأب ولما لقى تسريحة شعره الشبابية مصففة بعناية ويلمع على أطرافها الجيل، أيقن إن نهاره هيكون بالألوان بالتأكيد. أنا والاتنين ستات التانيين اللى كانوا فى الميكروباص لزقنا فى الإزاز اللى جنبنا تحسبا للكمات المتطايرة، وانتظارا لأى فرصة ممكن نضطر ننط فيها من الشباك وننزل زرع بصل فى الشارع أكرملنا أو أأمن من اللى هيحصلنا وإحنا بين 4 جدران.
السواق إيده بدأت تزحف تحت كرسيه استعدادا لاستخدام الحتة الـ9 مللى نصيبه من توزيع تركة الانفلات الأمنى على أفراد الشعب اللى أدركوا أن على كل مواطن حماية نفسه بنفسه وإن «الشعب فى خدمة روحه» بأه هو الشعار الأمنى الجديد. وكان فاضل 3 ثوانى ونسمع صوت فتحه لزرار الأمان فى المسدس استعدادا لتحويل اليوم للجزء السادس من «داى هارد» لخالد الذكر «بروس ويليز»! بينما الكل خلاص على وشك القفز داخل أتون المعركة، إذا بالميكروباص يمر بجوار فلاح ماشى ومعاه معزتين وخروف، شاورت عليهم البنت وقالتها تانى بحروفها الطفولية المكسرة «خرووووف.. إعزة»، وصقفت بإيديها فى الهوا، فى نفس اللحظة اللى أدرك فيها الركاب الموقف وانكسر جدار التنشنة فى ثانية وكأنه تبخر فى الهوا، وتباينت ردود الأفعال بين تصفيق للبت وبوس فى أبوها وهتاف «الله أكبر» مع التربيت على كتف صاحب الجريدة، وبوس فى إزاز الميكروباص اللى هو البديل لسجود الشكر، وبوس أرض استاد القاهرة الدولى وقت الماتشات. انحل الموقف وقتها لكن يظل التربص بيننا كلنا موجود فى كل لحظة، دلوقت الواحد قبل ما يطلع كلمة لازم يحسبها مليون مرة من كل الجهات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا، ويراجع كل الإيفيهات اللى صدرت من 3 سنين ولحد دلوقت عشان ما يتسببش فى مشكلة ما بكلمة فارغة وهو ولا على باله.
كل يوم الصبح فيه كلمتين تلاتة بينتقلوا من قاموس الكلام العادى لقاموس تلقيح الكلام، ده غير الكلام اللى بينتقل من قايمة الكلام البريء لقايمة الكلام «الأبيح». حضرت موقف فى فندق كان نزيل بيحاول يطلب فيه وجبة فطاره، نص ساعة عشان يشرح لمسئولة البوفيه هو عايز ياكل إيه من غير ما يجرح مشاعرها، كان عايز فول وبيض، ولأن كلمة «بيض» دلوقتى فيه سياقات بتتحط فيها لا ترضى عدو ولا حبيب، فالشاب قعد نص ساعة يشرحلها بطريقة: «عارفة الفرخة لما بتتجوز الديك؟.. وبعدين يحبوا يجيبوا كتاكيت صغيرين؟!.. عارفة الكتاكيت دى بتيجى منين؟»، فكانت النتيجة طبعا إنها لمت عليه الفندق كله، إعتقادا منها إنه بيتحرش بيها، كل يوم الصبح بأه الواحد لازم يفتح «جوجل» ويبتدى يسأله: «أقول برتقال عادى وإلا فيها حاجة؟».. «التفاح لسه كلمة بريئة زى ما هى؟» طب المكرونة؟.. والقلقاس طيب تمام؟»، أما عن الإسقاطات السياسية فحدث ولا حرج، كلمة «نهضة» مثلا بقت ممنوعة فى أى سياق. و«رمضان مبارك» بقت بتجيب لصاحبها الكلام. و«نحيى الإخوة والأخوات» ما عدتش بتعدى عادى كده وما عادش معناها عموم المصريين، أما «أهلى وعشيرتى» بقت لفظ موجه لسكان المقطم وعلى المقيمين خارجه مراعاة فروق التوقيت. وأخيرا «الدنيا ربيع والجو بديع» بقت محتاجه هامش توضيحى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك إنك ما تقصدش بأى حال من الأحوال إنك مع أخونة أغانى أو أفلام أو فساتين سعاد حسنى.. هو إحنا هنفضل كتير كده؟! كل واحد فينا ماشى فى الشارع كأنه بالونة مستنية دبوس أو قنبلة مستنية شعله عشان تنفجر فى الجميع؟!، إيييييه؟ فين أيام ما كانت الخناقة الوحيدة اللى ممكن تحصل بين اتنين مصريين بيتسبب فيها الدورى وماتشات الأهلى والزمالك؟. هتقوللى الوعى بقى أكتر، هتقوللى كنا عايشين فى غيبوبة، هتقوللى لسه الطريق طويل ومكملين، هاقولك تمام جدا، عندك حق وكلام جميل وأنا رأيى من رأيك بالتأكيد، بس فى أوقات كتيرة ما باقدرش أمنع نفسى من الشعور بالحنين لأيام ما كناش بنتلكك ونتربص ونقف ع الواحدة فيها لبعضينا، لأيام كنا فيها أكتر هدوءا وأهدى أعصابا وأريح بالا بكتير.