لا يخفى على من قرأ رواية جورج أورويل الشهيرة «1984» أن الرقم الذى اختاره أورويل عنوانا للرواية لا أهمية له على الإطلاق.
كان كل ما يقصده أورويل أن يحذر مما يمكن أن يأتى به المستقبل، أو أن يقول إن النهاية الطبيعية لمسار المجتمع الحديث، كما كان يراه وقت كتابته للرواية، سيئة للغاية، ما لم نتدخل لتغيير هذا المسار قبل فوات الأوان. كان يكتب الرواية خلال سنة 1948، واختار الرقم 1984 اختيارا عشوائيا للدلالة على وقت ما فى المستقبل، ولم يكن هناك ما يمنع من أن يختار سنة أخرى فى المستقبل كسنة 2009 مثلا.
أما وقد اختار سنة 1984، فكان من الطبيعى عندما تحل تلك السنة «بعد نشر الرواية بثلث قرن» أن يتناقش الناس حول ما إذا كانت نبوءات أورويل قد تحققت، وما إذا كنا قد وصلنا بالفعل إلى ذلك المجتمع الرهيب الذى تصوره الرواية. أذكر أن من بين الكتّاب القليلين جدا الذين قالوا: «نعم، إن نبوءات أورويل قد تحققت، وأن ما حذرنا منه قد وقع بالفعل، على الأقل فى جوهره»، الكاتب الأمريكى العظيم ناعوم تشومسكى، وقد فرحت عندما وجدت رأى تشومسكى فى هذا الأمر مثل رأيى، إذ كنت أكنّ لتشومسكى دائما تقديرا شديدا، فسرنى أن ظنى لم يخب فى هذه المرة أيضا.
على أننى بعد قليل من التفكير، لم أستغرب أن يذهب معظم الكتّاب إلى عكس هذا الرأى، فينكرون أن تكون نبوءات أورويل قد تحققت، وأن يكون المجتمع الحديث قد أصبح فى 1984 بالفظاعة التى تصورها الرواية. وفسّرت هذا الموقف بأمرين: الأول أن «1984» هى فى نهاية الأمر رواية وليست تحليلا علميا، ومن الطبيعى أن يلجأ كاتب الرواية «أى رواية» إلى بعض المبالغة، وأن يختار من مظاهر الحياة التى يراها أمام عينيه بعضها ويتجاهل غيرها، وأن يعمد إلى «تكثيف» هذه المظاهر التى اختارها واعتبرها أكثر مغزى أو أكثر قابلية للبقاء من غيرها. «تكثيفها» بمعنى استخلاص الجوهرى منها والاستغناء عن التفاصيل وغير الجوهرى. العمل الفنى فى نهاية الأمر لابد أن ينطوى على اختيار وتأكيد واستبعاد وتضخيم لبعض جوانب الواقع دون غيرها، وإلا فما الذى يميز اللوحة الفنية لمنظر طبيعى، أو لوجه الإنسان، عن الصورة الفوتوغرافية؟
ولكن الحياة الواقعية لا تعرف عملية الاختيار والاستبعاد والتضخيم هذه، ومن ثم فمن الممكن جدا أن تخدعنا بعض التفاصيل التافهة، أو بعض المظاهر قليلة المغزى، وتحجب عنا رؤية المسار العام، أو التحولات المهمة فى حياتنا، فنظن ألا شىء مهم يحدث، بينما تحدث أمور بالغة الخطورة فى الحقيقة.
يذكرنى هذا بالخطابات التى كانت ترسلها لى أمى من مصر وأنا فى انجلترا، وكانت تختم خطاباتها عادة بعبارة «كل شىء على ما يرام»، وقد تضيف «ولا ينقصنا إلا رؤياك». ولكننى عندما استعرض الآن ما كان يحدث لأفراد العائلة فى فترة كتابتها لهذه الخطابات، أتعجب أشد العجب من خطورة وأهمية الكثير من هذه الأحداث، التى لم تسترع انتباه أمى مع ذلك، أو لم تدرك خطورته، فاعتبرت أن «كل شىء على ما يرام».
ولكن هناك سببا آخر لعدم ملاحظتنا لبعض الأشياء المهمة التى تمر بنا، غير كثرة ما نصادفه من تفاصيل صغيرة تحجب عنا الأهم منها، وهو مجرد «التعود». نحن للأسف كثيرا ما نتعود على أشياء سيئة جدا حتى نعتبرها من طبيعة الأمور، فنكف عن التأفف منها، ومن ثم لا نبذل أى محاولة لمقاومتها.
هذا فى رأيى ما حدث منذ ظهرت رواية أورويل فى سنة 1949 لقد حدثت بالفعل أشياء كثيرة مما توقعه، والصورة العامة التى رسمها زادت قتامة مع مرور الوقت، ولكن هذا التدهور صاحبته أحداث أخرى وتفاصيل كثيرة جعلت من الصعب علينا رؤية الاتجاه العام لمسار الحياة الحديثة، فضلا عن أننا تعودنا على أشياء سيئة كثيرة، فلم نعد نتأفف منها، واعتبرناها من طبيعة الأمور التى يتعين قبولها.
******
كان لابد أن تطوف بذهنى مثل هذه الأفكار بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما للقاهرة فى 4 يونيو الماضى. جلست أمام التليفزيون منذ ظهور أوباما على الشاشة، وتتبعت مساره منذ بداية وصوله إلى قصر القبة لمقابلة الرئيس مبارك، ثم خروج موكبه من القصر، ثم طوافه فى مسجد السلطان حسن واستماعه لشرح ما يراه فى المسجد من سيدة مصرية/ أمريكية، ثم ظهوره فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، ووقوفه وحده على المنصة، وإلقائه خطابه الموجه إلى المسلمين فى كل مكان، والذى استقبل استقبالا حافلا وغطته وسائل الإعلام فى سائر أنحاء الأرض.
شاهدت بعينى وسمعت بأذنىّ ما يدل على افتتان الناس الشديد بالرئيس الأمريكى الجديد، ثم قرأت فى الصحف ما يؤكد هذا الافتتان الشديد. وعبر كثيرون من بينهم من اعتبرهم من صفوة أصحاب الرأى فى مصر، عن آمال كبيرة فى أن يحقق هذا الرجل للعرب والمسلمين ما لم يحققه رؤساء أمريكا السابقون. تفاوتت درجة التفاؤل لدى هؤلاء، ولكنهم عبروا عن تفاؤل لا شك فيه فى أن يكون هذا الرئيس الجديد أفضل بكثير من سابقيه، حتى للعرب والمسلمين.
ولكننى لاحظت أيضا أننى شعرت بالحزن بعد انتهاء الخطاب، وبأننى أحتاج لفترة بعد أن أغلقت التليفزيون أحاول فيها أن أتبين مغزى ما رأيته بالضبط. ومرة أخرى قفزت إلى ذهنى رواية 1984 وعالم جورج أورويل.
******
فى أثناء إلقاء أوباما لخطابه سمعت صوتا يأتى من القاعة يهتف لأوباما بقوله «We Love you Obama» «نحن نحبك يا أوباما!». وكان هذا كافيا لتذكيرى بالرواية. فالرواية مليئة بالهتافات «للأخ الأكبر» Big Brother، وهو رئيس الدولة الخيالية، والهتافات فى الرواية هستيرية، اعتاد الناس عليها، فأصبحت تصدر منهم بلا تفكير، بل وبإخلاص. والرواية تنتهى بعبارة لا شك أن أورويل اعتبر أنها تلخص مغزى الرواية كلها، وهى تصف شعور بطل الرواية «وينستون» بعد أن تعرض لتعذيب فظيع وغسيل تام للمخ، وتحوّل إلى شخص جديد تماما، كره حبيبته وفقد أى رغبة فى رؤيتها، وتنتهى الرواية بأنه أصبح: «يحب الأخ الأكبر».
سألت نفسى عما إذا كان هذا معقولا؟ هل من المعقول أن هذا الذى رأيته على شاشة التليفزيون له علاقة بمضمون رواية 1984؟
هل معقول أن كل هذه المشاعر من الحب والتقدير والافتتان التى يشعر بها الناس نحو أوباما، لها صلة بمشاعر الناس فى رواية أورويل، ولها أسباب مماثلة؟ أخذت أستعيد ما رأيته وسمعته لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال.
أوباما بلا شك رجل جذاب جدا، وفصيح للغاية. ولكن من قال إن «الأخ الأكبر» فى رواية أورويل لم يكن أيضا جذابا جدا وفصيحا؟ أريد أيضا أن أزعم أن جزءا كبيرا من جاذبية أوباما يرجع إلى أنه رئيس جمهورية، بل ورئيس جمهورية أغنى وأقوى دولة فى العالم، وأنه رئيس أسمر اللون فى دولة غالبية سكانها من البيض، ومن الذين كانوا حتى وقت قريب يسيئون معاملة الملونين. أن يصبح رجل أسمر رئيسا لجمهورية هذه الدولة، ويحاط بكل مظاهر الأبهة التى لم يكن يتصور أن يحظى بها إلا رجل أبيض، وأن تظهر بجواره زوجة شابة لطيفة، وسمراء مثله، وبنتان صغيرتان ضحوكتان، وينزل من سيارة مبهرة فيحييه جنود عظام ذوو بشرة بيضاء، ويُعزف له السلام الجمهورى.. الخ، كل هذا لابد أن يضفى عليه جاذبية تضاعف من أثر وجهه الوسيم. ولكن كل هذا لا يمكن أيضا أن يحدث أثره فى الناس إلا من خلال وسائل الإعلام التى لا عمل لها إلا تحول أشخاص عاديين إلى أبطال، ونساء متوسطات الجمال إلى نجوم.
هذه نقطة جوهرية فى رواية أورويل: ما تصنعه وسائل الإعلام بالناس، وكيف تتلاعب بعقولهم بالمبالغة أحيانا أو بمجرد التكرار، وبمختلف الحيل التكنولوجية التى توجد مشاعر الحب أو الكراهية، بطرق لا عقلانية بالمرة، كالجمع بين صورة الزعيم وصورة شىء جميل قد لا يمت للزعيم بصلة، أو ربط اسمه بخبر سعيد لم يكن هو السبب فيه، فضلا عن إظهار من يراد زيادة شعبيته فى أفضل صورة دائما، وتجنب تصويره فى أى موقف قد لا يبعث على الثقة.
خذ المثال الآتى: لقد بُهرت كما بهر الجميع بقدرة أوباما الخارقة على الخطابة والارتجال، وأدهشتنى كل الدهشة قدرته على إلقاء هذا الخطاب المتقن لمدة تقرب من الساعة، بترتيب رائع ومنطق أخّاذ، وقدرته على تذكر النقاط السبع التى احتواها الخطاب، فينتقل من الواحدة إلى الأخرى دون تردد أو أى جهد لمحاولة التذكر، مع خطورة ما يقوله، وما يمكن أن يترتب على أى خطأ صغير من إثارة مشكلات سياسية أو إغضاب دولة صديقة أو مجموعة من الناس لا يصح إغضابهم. يفعل كل هذا دون أى خطأ أو تلعثم، فيا له من رجل!
ذكرت هذا لصديق أمريكى له معرفة أكبر منى بكثير بما أحرزته تكنولوجيا الإعلام من تقدم، فابتسم وقال لى: إن الحقيقة ليست كذلك بالضبط. فعلى يمين أوباما وعلى يساره، فوق منصة قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، يقف لوحان زجاجيان كبيران محدّبان لا يراهما الجمهور، بينما تجرى عليهما سطور الخطاب الذى يلقيه، على نحو يستطيع هو أن يقرأه وهو واقف فى مكانه، ناظرا مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، فيبدو للناس وكأنه يرتجل الكلام أو يحفظه عن ظهر قلب، بينما هو لا يفعل أكثر من قراءة كلام مكتوب أمامه، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح.
******
لاحظت مما شاهدته من صور تتعلق بزيارة أوباما، على شاشة التليفزيون أو فى الصحف، منظر شوارع القاهرة التى مر بها الموكب وما سمعته عما فعله رجال الأمن من أجل تأمين سلامة الموكب تأمينا كاملا. الشوارع تبدو شبه خالية من الناس، وكذلك الشرفات، والنوافذ مغلقة. ثم عرفت أن هذا تم بأوامر مشددة من الشرطة، بل قيل إن سكان البيوت التى تطل شرفاتها على الموكب قد صدرت لهم تحذيرات من الظهور فى الشرفة وإلا حدث لهم مكروه. كل هذا عدا إغلاق مدارس وجامعات ونواد رياضية وتأجيل الامتحانات.. إلخ.
جرى هذا كله من أجل تحقيق رغبة رئيس دولة أجنبية فى إلقاء خطاب موجه «للعالم الإسلامى»، فى موعد تم تحديده من جانبه هو، وفى مكان اختاره مستشاروه ورجال أمنه، وبحضور مدعوين لم تحددهم الدولة «المضيفة» بل اختارهم رجاله هو من بين المصريين والأجانب، بصرف النظر عما إذا كانت حكومة الدولة «المضيفة» راضية عنهم أو غير راضية، وما إذا كانت دعوتهم تعتبر «تطبيعا» مع إسرائيل أو لا تعتبر كذلك.
هل كان هذا الرجل «الجذاب جدا» راضيا عن كل هذا، أو حتى أستشير فيه، أم فرضت كل هذا اعتبارات أمنية وتكنولوجية وسياسية عليا، أعلى حتى من الرئيس الأمريكى، ويصعب تشخيصها والتكهن بطبيعتها وكأنها إرادة إلهية؟
كل هذا ينتمى إلى عالم جورج أورويل، ولكننى تذكرت كيف كان الحال مختلفا فى سنة 1974، أى منذ نحو ثلث قرن، عندما جاء ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك لزيارة القاهرة فى أعقاب تحوّل السياسة المصرية من الولاء للسوفييت إلى الولاء للأمريكيين. اتخذت إجراءات أمن مشددة بالطبع، ولكنها لا يمكن مقارنتها بما اتخذ من إجراءات لحماية أوباما. فالشوارع ظلت مفتوحة، وسُمح للناس بالاصطفاف على الأرصفة وتحية الموكب من الشرفات، بل وظهر نيكسون فى سيارة مكشوفة إلى جانب الرئيس السادات، مع أن نيكسون لم يكن يحظى بجزء صغير مما يحظى به أوباما من شعبية لدى المصريين. ما الذى حدث يا ترى خلال ثلث القرن الماضى لبث كل هذا الخوف فى النفوس. لم تكن ظاهرة «الإرهاب» قد اخترعت بعد، ولكن هذه الإجراءات الأمنية المشددة لم تتخذ خوفا من الإرهاب، بل الأقرب إلى الحقيقة أن الإرهاب قد اخترع أصلا لبث الخوف. وأما الدافع الحقيقى إلى بث الخوف فى نفوس الناس فلم يشرحه أحد بأفضل مما شرحه أورويل فى رواية «1984».
ولكن أهم ما فى رواية «1984» ليس ما تبثه الدولة التكنولوجية الحديثة من خوف فى نفوس الناس، ولا قدرة السلطة على التجسس على الناس وهم جالسون فى بيوتهم، وتسجيل حركاتهم وسكناتهم، بما فى ذلك ما يسميه أورويل «جريمة الوجه» Face Crime أى أن ترتسم على الوجه مشاعر معادية للنظام بل الأهم من ذلك ما تمارسه السلطة من كذب مستمر على الناس والترويج لعكس الحقيقة بالضبط، مع إلباس الكذب والنفاق رداء الفضيلة. هكذا وجدت خطاب أوباما، وهذا هو ما بعث فى نفسى الحزن بعد انتهائى من سماعه. فهو يقول كلاما منسقا تنسيقا بديعا ولكنه مخالف مخالفة تامة للحقائق. يتظاهر بالجزع لمحرقة اليهود بينما هو يقول الكلام الذى طلب منه الإسرائيليون وأنصارهم أن يقوله، ويتظاهر بالتعاطف مع محنة الفلسطينيين دون أن يعد بتلبية مطلب واحد من مطالبهم، ويتظاهر بأنه لا يعرف الفرق بين المسئول عن محنة اليهود فى ظل ألمانيا النازية والمسئول عن محنة الفلسطينيين، ويتظاهر باحترام الإسلام وتبجيله دون أن يعد بشىء من أجل التخفيف من آلام المسلمين.
الكلام كله إذن جميل جدا، ولكنه مزيف تماما. وهو بالضبط ما عناه أورويل فى ملحق كتابه عن «اللغة الجديدة»، وما قصده عندما أشار إلى تسمية وزارة الحرب فى دولته الخيالية «بوزارة السلام»، وتسمية الوزارة المسئولة عن تزييف التاريخ وبث المعلومات الكاذبة «بوزارة الحقيقة». أما صياح أحد الحاضرين أثناء إلقاء أوباما بالخطاب «نحن نحبك يا أوباما»، فليس لدينا ما يؤكد أنه كان عملا تلقائيا يعبر عن شعور حقيقى أم أنه أيضا قد تم ترتيبه مقدما. ولكن سواء كان عملا تلقائيا أم مرتبا بفعل المسئولين عن ترتيب هذا المهرجان برمته، فإنه أمر محزن للغاية.