الجغرافيا والأدب: محمد عوض وطه حسين - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 3 يوليه 2024 8:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجغرافيا والأدب: محمد عوض وطه حسين

نشر فى : الثلاثاء 18 يونيو 2024 - 5:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 19 يونيو 2024 - 3:39 ص

«محمد عوض محمد» هو أول مصرى يحصل على دكتوراه فى علم الجغرافيا، وكان ذلك من جامعة لندن عام 1926.

مراجعة حياة هذا الرجل تؤكد لك أنه لا يمكن لجغرافى أن يكون بلا هوية سياسية أو انتماء لأطروحة أيديولوجية يرى منها العالم ويسعى إلى تغييره.

كان «محمد عوض محمد» وفديا ومقربا من الزعيم المصرى سعد زغلول ونفى معه إلى مالطا فى مارس 1919.

بشهادة التلميذ المباشر والمقرب من محمد عوض محمد (أستاذنا الدكتور محمد رياض) فإن عوض استغل فترة نفيه فى مالطا وتعلم أسس اللغة الألمانية من الجنود الألمان الذين وقعوا فى الأسر كما تعلم أيضا بعضا من اللغة التركية من العساكر الأتراك المأسورين فى ذات الجزيرة.

بعد أن حصل محمد عوض محمد على الدكتوراه من لندن عام 1926 عاد للعمل فى الجامعة المصرية وكان زميلا فى هذه الفترة لطه حسين الذى شغل منصب عميد الكلية.

جمعت طه حسين ومحمد عوض محمد علاقة وطيدة واشتركا معا فى تأسيس دار نشر فى حى عابدين. كانت الصداقة مثمرة وعلى أسس من الإجلال والتبجيل.

كان طه حسين عميدا لكلية الآداب وكان محمد عوض أول أستاذ مصرى للجغرافيا فيها. الصداقة العضوية تعنى الانتماء والوفاء وتحمل المسئولية، ومن ثم حين تم فصل طه حسين من الجامعة لأسباب سياسية ونقل لوظيفة إدارية لم ينسحب عوض من الانتماء بل تضامن مع صديقه ونزل عليه عقاب مماثل وصدر أمر وزير المعارف حينها (حلمى عيسى باشا) بترك عوض قسم الجغرافيا وكلية الآداب ونقله للعمل فى كلية التجارة وظل بها عدة سنوات حتى عام 1935 إلى أن عاد طه حسين للجامعة مجددا.

لم يبق عوض فى نفيه بكلية التجارة بل عاد بقدراته وإمكاناته ليؤسس معهدا عظيما فى الجامعة هو «معهد الدراسات السودانية» وكانت كلمة السودان حينها تعنى إفريقيا. وسيتحول اسم المعهد لاحقا إلى معهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة حاليا ثم يغير اسمه قبل عامين أو ثلاثة إلى كلية الدراسات الإفريقية العليا!.

فى هذه الفترة سيؤلف محمد عوض كتابا مهما عن «نهر النيل» ثم كتابه الأكثر أهمية «السودان الشمالى: سكانه وقبائله» عام ‏1951‏.

هذه الأزمات والعثرات كانت تجارب ومعارك ثقافية أنتج فيها عوض أعمالا مهمة وتأثر بطه حسين وغيره من كبار الأدباء فترجم عن الألمانية والإنجليزية أعمالا عديدة فى الأدب لعل أشهرها «فاوست» التى تجعل الناس لا يتخيلون أن المترجم الشهير «محمد عوض محمد» هو نفسه الجغرافى العظيم مؤسس علم الجغرافيا فى مصر.

فى تقديمه للترجمة التى أعدها محمد عوض محمد عن الألمانية لرائعة جوته «فاوست» يقول عميد الأدب العربى طه حسين عن الجغرافى الأول:

«عرفته منذ أعوام هادئ النفس، صافى الضمير، كريم الخلق عذب الحديث؛ وكان يلذ لى أن أسمع له فأفْهَم، كما كان يعجبنى أن أتحدث إليه فيفْهَمَ عنى؛ كل ذلك فى سهولة ورفق، من غير تكلّف ولا محاولة. وكنت أقدّر أن بينه وبينى صلة خاصة تقرب المسافة بيننا أو تمحوها. ولم تكن هذه الصلة بالطبع تنشأ عن المادة التى اختص بها، وبرع فيها. فقد كان يقال إنه وصاف للأرض ماهر فى الوصف، مقوم للبلدان بارع فى التقويم. درس فى مصر ثم فى إنجلترا وعاد إلى مصر يحمل إجازات راقية فى الجغرافيا. وحظى من هذا العلم قليل، ولا يمكن إلا أن يكون قليلا؛ وإلا أن يكون مشوها بعض التشويه. أثَرُ الخيال والخطأ فيه أكثر من أثر العلم والصواب ــ فلم يكن غريبا أن أبحث عن هذه الصلة التى كانت تقرب بينى وبين الأستاذ محمد عوض، حتى قال لى قائل إنه يحب الأدب ويشغف به، ويعكف عليه حين يفرغ من وصف الأرض وتقويم البلدان. وقال لى قائل بعد ذلك إنه يجب اللغات ويدرس منها ما يجد إلى درسه سبيلا. فهو يتقن الإنجليزية والألمانية ويحسن الفرنسية وله من التركية حظ ومن الفارسية نصيب؛ وهو إلى استظهاره النصوص العربية القديمة الغليظة لا يحب من اللغات الأجنبية التى يحسنها أو يلم بها إلا خلاصاتها العلمية والفنية والادبية؛ لا يعنيه كثيرا أن يتكلمها فى الأندية ودور التجارة، وإنما يعنيه أن يفهمها وينفذ إلى لبها الخالص.

قال لى قائل هذا كله فقلت معجبا مبتسما: إنه ليذكرنى بجوته، فقد كان هذا الشاعر على ألمانيته معجبا مسرفا فى الطموح إلى ما لا يعلم، يحسن لغات أجنبيه ويلم بلغات أخرى ويحاول أن ينفذ إلى لباب هذه اللغات وآثارها الفنية والأدبية، لا تصرفه اللغات الجديدة عن اللغات القديمة ولا تلهية لغات الغرب عن لغات الشرق.

قال صاحبى: وإن صديقنا ليحب جوته ويقف عليه كثيرا من وقته، وقد أخبرت أنه ترجم (فوست) أو يترجمه. وقد أخبرت أنه يترجم من الألمانية، لا من لغة أخرى، وقد أخبرت أنه إذا فرغ من قطعة واستوثق من حسن الملاءمة بينها وبين الأصل الألمانى قابل بين ترجمته العربية وتراجم مختلفة فى الإنجليزية والفرنسية ليطمئن إلى حسن فهمه وصحة نقله.

هنالك عنيت بالتودد إلى هذا الجغرافى الغريب، وانتهزت كل ما أتيح لى من فرصة لأتحدث إليه فأطيل الحديث ولم أزل به حتى اضطررته إلى أن يعترف بأنه يترجم فوست وبأنه قد مضى فى هذه الترجمة إلى أمد بعيد.

ثم التقينا فى لندره إبّان الصيف الماضى ومكثنا أياما لا نكاد نفترق، وكلما التقينا ابتدأنا حديثا لا ينقطع إلا حين نفترق كارهين. وكنت أفكر كلما تحدثت إليه أو تحدث إلىَّ، فى (فوست) وترجمته لفوست؛ وكنت أقول فى نفسى يجب أن تكون هذه الترجمة صحيحة متقنة لأن نفس صاحبى قد تلونت بلون جوته، ففى حديثه سخرية متصلة هادئة دائما، ولكنها عميقة لاذعة دائما.. وكذلك جوته.

لم أكن أشك وأنا أتحدث إلى مترجم (فوست) أنه قد استطاع أن يلبس نفس جوته، ويحس بها كما كان يحس، ويرى الأشياء كما كان يراها؛ لا فى أطوار الترجمة وحدها، بل فى حياته العادية المتصلة.

ثم يختتم طه حسين تقديره لمحمد عوض محمد قائلا:

«رجل وقف الخلاصة من حياته على الجغرافيا واستطاع مع ذلك أن يعنى بالأدب، ويأخذ منه بحظ موفور، ثم أن يهجم على أشق الآثار الأدبية وأعسرها، وأبعدها عن اللغة العربية، خليقٌ بالإعجاب والإكبار».

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات