فكرة بسيطة أحب أن أقدمها للمسئولين عن وضع وتنفيذ السياسة الاقتصادية؛ أن الغموض وعدم الوضوح هما ألد أعداء الاستثمار والتشغيل والتنمية الاقتصادية وأن ما يحتاجه المجتمع قبل أى شىء آخر هو الوضوح وفهم ما تنوى الحكومة أن تطبقه من سياسات وبرامج. كل طرف فى المعادلة الاقتصادية له حساباته وتقديراته ويمكنه التفاعل مع الكثير من المتغيرات والتأقلم مع اوضاع متنوعة ــ بما فيها تقلبات الأسعار وزيادة الضرائب وتغير ظروف العرض والطلب ــ لو أتاحت له الدولة أن يكون شريكا فى فهم سياساتها ومطلعا على توجهاتها ونواياها.
لا أظن أن هناك من يجادل فى أن مصر تمر بظروف اقتصادية عصيبة ولا أن البلد يحتاج إلى موارد كبيرة لا تتوافر لدينا. ولكن مع ذلك وحتى فى ظل ندرة الموارد والإمكانات فبمقدور الدولة أن تقدم رؤية اقتصادية واضحة المعالم، وبرنامجا واقعيا وقابلا للتطبيق، وتشرك المجتمع فيما تعتزم القيام به، وتقبل المراجعة والنقد والتصحيح، وكل هذا لا يحتاج إلى موارد ولا ديون ولا منح من الخارج، بل تطبيق مبدأ «الصراحة راحة».
أقول ما سبق بمناسبة استمرار التضارب والتناقض بين مواقف وتصريحات المسئولين الاقتصاديين على نحو لا يعبر عن وجود سياسة اقتصادية متسقة يمكن متابعتها والتفاعل معها وبناء التوقعات بناء عليها. وسوف أذكر بضعة أمثلة بسيطة لذلك. المثال الأول هو التناقض بين ما أعلنته وزارة الاستثمار عن عزمها تنفيذ برنامج لطرح أسهم بعض الشركات المملوكة للدولة فى بورصة الأوراق المالية وبين تأكيد وزارة قطاع الأعمال العام ــ وهى صاحبة الاختصاص الأصلى بهذا الملف ــ بأن بيع أصول الدولة ليس مطروحا فى الوقت الحالى. أما المثال الثانى فهو الغموض المحيط بالمشاورات والاتفاق المحتمل بين مصر وبين صندوق النقد الدولى، فهل هناك اتجاه للوصول إلى مثل هذا الاتفاق كما يؤكد بعض المسئولين أم أن الموضوع غير مطروح بالمرة كما يزعم آخرون فى ذات الدولة. وإن كان الاتفاق وشيكا، أليس من الضرورى أن تكون ملامحه الرئيسية محل حوار فى المجتمع أم يكون الإعلان عنه مفاجأة سارة للبعض وغير سارة لآخرين. وأما المثال الثالث فهو ما يتعلق بالسياسة الضريبية وبصفة خاصة ضريبة القيمة المضافة الجارى مناقشتها فى البرلمان ولا يزال سعرها غامضا والبنود التى سوف تتضمنها غير واضحة. وما سبق ينطبق بدرجات مختلفة على العديد من مواطن الغموض فى السياسة الاقتصادية، بما فيها سوق الصرف، وضريبة الربح الرأسمالى على تعاملات البورصة، ومستقبل دعم الصادرات، وكيفية تمويل المشروعات القومية الكبرى، والتحمل بأعباء تفاقم الدين العام.
إن كان سبب التردد هو القلق من رد فعل الناس إذا ما بلغها أن هناك ارتفاعا وشيكا فى الأسعار أو زيادة فى الضرائب أو تحميلا بأعباء أخرى فقد يكون من الضرورى أن تعيد الدولة تقييم مدى تقديرها للشعب ولما تحمله من مشاق ومصاعب وما تعرض له من ظروف اقتصادية وأمنية بالغة الصعوبة فى السنوات الأخيرة ولكن ظل مع ذلك مستعدا لمزيد من التضحية، متفهما لصعوبة الوضع، وغافرا لأخطاء كثيرة. أظن ان هذا الشعب يحق له أن يكون شريكا ومتابعا ومحل ثقة الدولة ولا يظل فى موقع المتفرج الذى تخشى السلطات ردود فعله.
أما إن كان السبب أن هناك ما يستدعى الإخفاء بالفعل، فإننا نكون حيال مشكلة أكبر ومسئولية قانونية جسيمة تقع على عاتق الحكومة فى الإفصاح عن سياساتها وبرامجها بالشكل الذى يتطلبه الدستور، ومسئولية اخرى على عاتق البرلمان فى أن يقوم بدوره ليس فقط فى مناقشة الموازنة والقوانين حينما تعرض عليه ولكن ايضا فى متابعة تنفيذها والرقابة على تحقيق مستهدفاتها.
وأخيرا فإن كان الغموض سببه، لا ضعف الثقة مع الشعب ولا وجود معلومات خفية، بل ان السياسة الاقتصادية غير موجودة، او لا تزال محل خلاف بين أطراف الدولة المختلفة فإن المشكلة تكون ــ على حد القول الشائع ــ أعظم.