مثلت تغريدات الرئيس دونالد ترامب يوم الأحد الماضى والتى أظهر فيها نبرة عنصرية مباشرة تحديا واضحا من الرئيس لكل من لا يتفق معه. ودعا ترامب نائبات ديمقراطيات فى مجلس النواب من أصول أجنبية لم يسمهن إلى العودة من حيث أتين. ويُعتقد على نطاق واسع أن ترامب قصد أربع نائبات ديمقراطيات انضممن لمجلس النواب عقب فوزهن فى انتخابات التجديد النصفى فى نوفمبر الماضى. ويتعلق الأمر بالنائبة أليكسندريا أوكاسيو كورتيز من ولاية نيويورك، والنائبة إلهان عمر من ولاية مينيسوتا، والنائبة رشيدة طليب من ولاية ميتشغان، والنائبة آيانا بريسلى من ولاية مساتشوستس. وولدت ثلاث من الأربع داخل الولايات المتحدة، فى حين أن إلهان عمر تعد الوحيدة من بينهن ممن ولدن خارج البلد، بالصومال تحديدا.
ويعرف الرئيس ترامب أن أغلب من يصوتون له لهم ميول عنصرية، وأنهم يريدون أمريكا دولة مسيحية بيضاء، لذا فهو من حين لآخر يذكرهم أنه مرشحهم المثالى. لكن كيف يمكن فهم عنصرية ترامب، سؤال يطرحه الكثير من الأمريكيين خلال الأيام الأخيرة، وهنا أعرض للتاريخ القديم والحديث ربما يساعدنا على فهم أعمق لخطاب ترامب.
***
مثل العام 2008 نقطة تحول هيكلية فى التاريخ الأمريكى إذ شهد حدثين تاريخيين، ساهما فى ضخ دماء جديدة فكرية وتنظيمية وهو ما سهل بدوره تشكيل تيار شعبوى نجح ترامب فى امتطاء قيادته. ففى هذا العام، وقعت الأزمة المالية العالمية التى بدأت بسوق العقارات الأمريكية، وأثر ذلك على ملايين المواطنين ممن فقدوا وظائفهم أو بيوتهم، أو الاثنين معا. وظهرت مرارة كبيرة من سياسات العولمة والتجارة الحرة والميكنة والاقتصاد الرقمى. وارتبط العام 2008 كذلك بوصول أول رئيس أسود، باراك أوباما، إلى البيت الأبيض، ومثل ذلك تذكيرا للأغلبية البيضاء، خصوصا الرجال منهم، أن التهديدات النظرية بفقدان سيطرتهم التاريخية على الحياة السياسة الأمريكية قد بدأت بالفعل. وكان رد الفعل متمثلا فى الوقوع فى أحضان حركة حزب الشاى المحافظة والمتطرفة حتى بمعايير الحزب الجمهورى. هاجم حزب الشاى أوباما، وتبنى سياسات وخطابا يؤجج العنصرية والتعصب والإسلاموفوبيا. ومثل صعود ترامب كذلك غضبا واضحا لما شهدته أمريكا من تغيرات اجتماعية وديموغرافية فى النصف قرن الأخير. ودفعت ديناميكية المجتمع الأمريكى خلال النصف قرن الأخير، والذى هاجر معها ما يقترب من 60 مليونا من دول أمريكا الوسطى الكاثوليكية بالأساس وآسيا غير المسيحية بصفة أساسية، وهو ما جعل أمريكا ومجتمعها أكثر تنوعا واختلافا عما يعتقد كثيرون. وبلغ عدد سكان أمريكا العام الماضى ما يقرب من 327 مليون نسمة، منهم 60,4% من البيض مقابل 18,3% من الهيسبانيك (مكسيكيون كاثوليك بالأساس)، و13,4% من السود الأفارقة، و5,9% من الآسيويين، والبقية متنوعة. فى ذات الوقت انخفضت نسبة البروتستانت من 50% عام 2003 لتصل 36% عام 2017، وفى الوقت نفسه تقلصت نسبة المسيحيين إجمالا لتنخفض من 83% إلى 72% فى نفس الفترة. ويرفض الكثير من المتعصبين البيض البروتستانت الاعتراف بواقع أمريكا الجديد، يرون فى التغيرات تلك تهديدا وجوديا لهم ولأمريكا التى فى مخيلتهم الجمعية. ولم تكفِ خطابات ترامب العنصرية والفاشية الوقحة ضد كل من هو غير مسيحى أبيض، كى لا يثنى الجمهوريين عن اختياره لتمثيلهم، بل يبدو أنها كانت السبب المباشر والأهم فى فوزه الكبير، واكتساحه كرمز ممثل للملايين من الغاضبين على اتجاه أمريكا السريع نحو مزيد من التنوع العرقى والدينى واللغوى. تبنى ترامب خطابا سياسيا ديماجوجيا يدغدغ عواطف المواطنين من أجل كسب ولائهم، ولدعمهم ما يُعرض عليهم من سياسات أو توجهات. ولا يُدعم الخطاب الشعبوى الترامبى بمعلومات دقيقة، أو بيانات صحيحة يمكن التحقق من مصداقيتها، إذ إنها تتجاهل عقل المواطن، وتتجه إلى عواطفه بصورة مباشرة.
***
ثم ظهرت خلال انتخابات الكونجرس النصفية عام 2010 جماعة «حزب الشاى» التى اعتمدت على خطاب شعبوى يمينى، وأصبحت بوتقة تجتمع حولها القوى المتشددة والمحافظة من الحزب الجمهورى. وجاء دونالد ترامب مستندا على عدائه وهجومه على المؤسسات والنخبة التقليدية من الحزبين الجمهورى والديمقراطى، ومتبنيا خطابا شعبويا معاديا للمهاجرين ومعاديا لاتفاقيات التجارة الحرة. وعلاقة ترامب بهذه الحركة الشعوبية ليس وليد انتخابات 2016، ففى مقابلة له مع قناة فوكس الإخبارية عام 2011 أبدى إعجابه بجماعة حزب الشاى، وقال: «أعتقد أن مناصرى جماعة حزب الشاى يحبون بلدهم، وأنا أعكس وأؤيد الكثير مما تتبناه الحركة».
***
منذ نشأة الدولة وتبنيها الدستور عام 1776، لم يتفق الأمريكيون كلية على فلسفة وأساس الدولة الجديدة، وعرفت الدولة الجديدة حربا أهلية بين رؤيتين للدولة القومية. الأولى ترى أن أمريكا دولة بيضاء، مسيحية الهوية، وترى الرؤية الثانية أمريكا كدولة متنوعة ينصهر فيها الجميع. ولم يتمتع كل المواطنين بكامل حقوقهم السياسية فى البداية، مُنح الرجل الأبيض الذى يمتلك أرض الحقوق السياسية أولا، ثم امتدت الحقوق للرجل الأبيض الفقير، ومن ثم إلى النساء البيض، وأخيرا إلى الملونين والأقليات بعدما دعمت التعديلات الدستورية شمولية الحقوق السياسية لجميع المواطنين بعيدا عن عرقهم وهويتهم أو دينهم أو جنسهم. لكن يبدو أن هذا الانقسام كان يتوارى ولا يختفى. وجاء الرئيس دونالد ترامب لتبنى نفس ملامح ومفردات الخطاب السياسى الذى تبناه الرئيس دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية 2016 ولم يتخل عنه بعد وصوله للبيت الأبيض. «أمريكا أولا» و«لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» و«ضرورة بناء أسوار وحواجز لمنع الهجرة» كلها شعارات لم يخترعها ترامب بل هى موجودة ولم تختف منذ تأسيس الدولة الأمريكية وحتى اليوم، إلا أنها دوما كانت تعبر عن رأى أقلية أو قيادة سياسية لم يتسن لها الوصول لمقعد البيت الأبيض. واليوم يطبعها ترامب، وللأسف لا تقتصر تأثيراتها على الداخل الأمريكى، بل تمتد للعالم كله بما فيه المنطقة العربية.
كاتب صحفى يكتب من واشنطن