نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب حازم صاغية.. نعرض منه ما يلى:
يقولُ بعضُ دارسى القسوة إنَّ مَن يتعرَّضون للتعذيب يُصدرون أصواتا بدائيَّة لا تنتمى إلى النطق واللغة. التعذيب يعيد الأصوات التى تنبعث منهم إلى الأصول البيولوجيّة الأولى، أصولنا السابقة على اختراع اللغة كأداة للتواصل والتفاهم.
شىءٌ من هذا القبيل نسمعه اليوم ما بين بيروت وبغداد. حكَّام العاصمتين يقولون كلاما لا يؤلِّف معنى، كلاما يناقض أوّلُه آخرَه. ما هو وصفٌ فيه لا يتّصل بالموصوف، وما هو علاجى فيه أشبه بالمرض ذاته.
بطبيعة الحال، فإنّ هؤلاء النافذين أشبه بممارسى التعذيب لا بضحاياه. مع هذا، لا بدّ أنّ الموقع الذى يدافعون عنه، أو يحاولون تبريره، يمارس عليهم تعذيبا من نوع آخر. المهمّة التى يتصدّون لها تقارب الاستحالة وتجعلهم يطلقون أصواتا متضاربة أو غير مفهومة، أصواتا لا تؤلّف معنى.
رئيس جمهوريّة لبنان، فى حديثه الصحفى، دعا شبّانه المنتفضين إلى الهجرة ما داموا لا يجدون فى السلطة من يستحقّ محاورتهم. راهنَ على «تاريخه» الشخصى كضمانة للمستقبل. اتّهم الدول الغربيّة بتقويض الاقتصاد اللبنانى والضغط على لبنان لتوطين اللاجئين السوريين.
اللغة، هنا، لم تؤدّ وظيفة التفاهم. كانت أقرب إلى أصوات سابقة على اللغة أشعلت البلد كلّه بما أثارته من سوء تفاهم. رئيسٌ يدعو أبناءه إلى الهجرة، ويعوّل على تاريخه الذى سبق أن ساهم فى تهجير آبائهم، ويُفتى فى أمور الغرب والتوطين من دون إيراد معلومة واحدة مفيدة!
إنزال ميشال عون إلى الحلبة كان استئنافا لسياسة استعراض الأسلحة الثقيلة: رياض سلامة المصرفى وحسن نصر الله المقاوم. الأسلحة كلّها بدت خفيفة جدّا بوصفها أدوات قادرة على الإقناع. لم يبرهن أى منهم أنّ فعاليّته تفوق فعاليّة نائب مضطرب من «التيّار الوطنى الحرّ» أو «محلّل استراتيجى» من «حزب الله». الرغبة فى تسمية محمد الصفدى لرئاسة الحكومة توّجت هذه الخفّة: الناس يصرخون فى الشوارع ضدّ «زيتونة باى» ويقتحمونها، فيما يُراد تسليم مفاتيح السلطة إلى «زيتونة باى».
خطاب نصرالله الأخير حاول أن يقنعنا بأنّ الوضع الاقتصادى البائس فى لبنان هو من نتائج المؤامرة الأمريكيّة إيّاها. اقترح علينا عددا من النماذج المأزومة لبلدان منكوبة يمكننا أن نطلب منها العلاج. اقترح أيضا استجلاب استثمارات صينيّة لا يحول دون قدومها إلاّ الولايات المتّحدة التى تمنع السلطة اللبنانيّة من استضافة الصينيين. زعيم حزب الله لم «ينتبه» إلى حقائق بسيطة منها أنّ الحرب التجاريّة المندلعة بين أمريكا والصين ما كانت لتندلع لولا حجم التبادل الهائل بين البلدين. الزميل مهنّد الحاج على ذكّرنا، فى موقع «المدن»، بمعلومات أوّليّة أخرى فاتت نصر الله: «لماذا لم تنفق الصين مليارا واحدا حتّى الآن فى إعادة إعمار سوريّا، سيّما أنّ واشنطن لا تملك أوراق ضغط على النظام هناك؟ الإجابة هى أنّ الصين تستثمر حيث ترى مجالا لعائدات كبرى. والحقيقة أنّ الاستثمارات الصينيّة الكبرى فى المنطقة تقع غالبا فى دول حليفة لواشنطن، من مصر والمغرب ودول الخليج. والشروط الصينيّة قاسية، وفى حالات كثيرة هى غير مربحة للاقتصاد المحلّى للدول المستثمَر فيها، كما تراعى بكين السياسات الأمريكيّة فى المنطقة، مثلما يحصل فى الملفّ الإيرانى».
بالتوازى، كان العراق يشهد شيئا مماثلا. يقال، من جهة، إنّ الثورة العراقيّة لا تعدو كونها مؤامرة أمريكيّة لتدمير العراق الوطنى ومعه الصداقة العراقيّة ــ الإيرانيّة! ويقال، من جهة أخرى، إنّ المسئولين عمّا يجرى، ممن يثور الشعب عليهم، هم أولئك الذين نصّبهم الأمريكيّون على العراق فى 2003. إذا جمعنا هاتين «الحقيقتين» انتهينا إلى النتيجة التالية: إنّ الشعب العراقى يثور على من نصّبهم الأمريكيّون من أجل تدمير العراق وصداقته مع إيران!
وبالطبع ففى تضاعيف كلّ واحد من التناقضات تقيم تناقضات أخرى: مثلا: إنّ الذين نصّبهم الأمريكيّون على العراق، رحّبت إيران بهم وبتنصيبهم، لا بل وصل بعضهم كآل الحكيم من طهران إلى بغداد مباشرة بعدما دخلها الأمريكيّون.
أهمّ من ذلك: كنّا قرأنا، فى هذه الغضون، مئات التحليلات التى تقول إنّ «الصداقة» الإيرانيّة العراقيّة لم تنشأ وتتطوّر إلا بنتيجة الانسحاب الأمريكى الذى أعطى طهران فرصتها لـ«ملء الفراغ فى العراق».
هذه «الطَهْوَجة» فى التحليل ليست بنت اليوم بطبيعة الحال. فى 2005 مثلا جرّب اللبنانيّون أن يفهموا كيف أنّ الذين اغتيلوا عملاء لأمريكا وإسرائيل اغتالتهم أمريكا وإسرائيل. عقول كثيرة ما انفكّت، منذ ذلك الحين، تحاول حلّ ذاك اللغز فيما يُعييها الفشل.
بيد أنّ الوضع اليوم صار أشدّ تعذيبا لمُبرّريه. تزويج الفيل والنملة لا ينتج عرسا. إذن: إلى مزيد من «الطهوجة» والكلام الذى لا يعنى. لنلاحظ مثلا كيف تتوازى الحجّتان الرئيسيّتان فى العراق ولبنان: تقول الأولى: إنّ «الحشد الشعبى» و«حزب الله» يؤيّدان انتفاضتى شعبيهما لكنّهما يحذّران منهما. وتقول الثانية: «الحشد» هزم «داعش»، و«الحزب» هزم إسرائيل، لذا يحقّ لهما ما لا يحقّ لغيرهما. فى الحجّتين التأسيسيتين هاتين تقيم «الطهوجة» الأمّ التى يفجّرها سوء نواياها. الباقى تفاصيل.