تكلفة الأمن - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 5:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تكلفة الأمن

نشر فى : الإثنين 18 ديسمبر 2023 - 10:25 م | آخر تحديث : الإثنين 18 ديسمبر 2023 - 10:25 م
عندما نتحدث عن الأمن الاقتصادى، فإننا نستحضر الكثير من المصطلحات الهامة، منها مثلا: الأمن الغذائى والأمن المائى وأمن الطاقة والأمن الوظيفى.. وهذا الأمن الاقتصادى بمفهومه الشامل وفروعه المتعددة يتحقق بتكلفة باهظة، بل إن معظم، إن لم يكن كل الدول، لم تحققه على نحو شامل إلا بنسب متفاوتة. ذلك لأن السعى لتحقيق الأمن الاقتصادى هو عملية مستمرة، تشبه إلى حد بعيد مفهوم الحاجات البشرية المتعددة فى الاقتصاد، والتى لا تتوقف عن طلب المزيد من الموارد مهما كانت متوافرة. الأمن العام هو فرع من فروع الأمن الاقتصادى، على اعتبار أن الفرد كائن اقتصادى. وهو أصل له، إذا نظرنا إلى العنصر البشرى باعتباره أهم العناصر المحققة للتنمية الشاملة، وهو المستهدف من تحقيقها. على أية حال، فإن تحقيق الأمن العام بما يعنيه من حماية لأرواح البشر وممتلكاتهم، بات من أكثر القضايا تعقيدا وتكلفة فى العقود الأخيرة.

• • •

تزايدت التحديات التى تعترض الأمن العام بشكل كبير، وتنوّعت لتشمل مبتكرات تقنية لم يكن العالم يعرفها من سنوات قليلة. الحرب السيبرانية، على سبيل المثال، تشكل اليوم تهديدا لممتلكات الناس على نحو غير مسبوق. الثروات التى تحوّلت فى معظمها، بفعل دورة التاريخ، إلى صيغة رقمية تمثل أرصدة فى البنوك، وحسابات على منصات إلكترونية للدفع، وحسابات على شبكات لتداول عملات رقمية.. باتت كلها مهددة بالضياع فى لحظات، بفعل هجمة إلكترونية واحدة. تلك الهجمات تعنى ضياع مليارات الدولارات أو سرقتها، وهذا يتطلب إنفاق مليارات أخرى لتأمينها ضد السرقة أو الضياع أو أى صورة من صور التلف.
وتتوقع شركة سايبر سيكيوريتى فينشرز Cybersecurity Ventures أن تنمو تكاليف الجرائم الإلكترونية العالمية بنسبة 15 بالمائة سنويًا على مدى السنوات الخمس بين 2020 و2025، لتصل إلى 10,5 تريليون دولار أمريكى سنويا بحلول عام 2025، مقارنة بـ 3 تريليونات دولار أمريكى فى عام 2015. ويمثل هذا أكبر تحويل للثروة الاقتصادية فى التاريخ، ويهدد جدوى الاستثمار بشكل كبير فى عدد متزايد من المجالات. إذا تعاملنا مع الجريمة السيبرانية على أنها دولة، وأن أضرارها تشكّل حجم اقتصادها، فإن الأضرار التى سببتها فى عام 2021 والمقدّرة بنحو 6 تريليونات دولار أمريكى يضع تلك الدولة فى المركز الثالث بين اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة والصين! وقد اعتمد تقدير تكلفة الأضرار على بيانات الجرائم الإلكترونية التاريخية، بما فى ذلك النمو السنوى مؤخرا، والزيادة الكبيرة فى أنشطة القرصنة المعادية التى ترعاها بعض الدول وأنشطة الجريمة المنظمة.

• • •

أما الإرهاب بصوره التقليدية، فقد أنفق على محاربته تريليونات الدولارات ومازالت. لكن تخصيص تلك النفقات لم يكن رشيدا على النحو المحقق لأهداف القضاء على الإرهاب. على سبيل المثال، غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق بدعوى القضاء على الإرهاب. أدت الحروب التى أشعلها شرطى العالم إلى زعزعة استقرار عدة مناطق حيوية، مما سمح بظهور جماعات وتنظيمات إرهابية جديدة، حيث وفّر لها الغزو الأمريكى بيئة خصبة وغطاء أخلاقيا لمقاومة الغزاة. إن الوجود العسكرى الأمريكى الذى دام عشرين عاما فى أفغانستان لم يشل حركة طالبان، ولم يوفّر للحكومة الأفغانية السبل اللازمة لمقاومتها. كما أن الأدوات التى استخدمها الجيش الأمريكى ووكالة الاستخبارات المركزية باسم مكافحة الإرهاب، بما فى ذلك الاختطاف، والاحتجاز لأجل غير مسمى، والتعذيب، والقتل المستهدف.. ساهمت فى تشويه سمعة الولايات المتحدة باعتبارها الراعى العالمى لحقوق الإنسان، وألحقت الضرر بعلاقاتها الدولية، وقدمت مادة خصبة لتجنيد الجماعات الإرهابية.
منذ عام 2001، أنفقت الولايات المتحدة وحدها ما يزيد على 9 تريليونات دولار كتكلفة إجمالية لمحاربة الإرهاب، بما يقدّر بنحو 93,26 مليون دولار (كل ساعة!).. من هذه التكلفة ينفق دافعو الضرائب الأمريكيون فى الساعة الواحدة 70,09 مليون دولار لرعاية المحاربين القدماء فى الحرب على الإرهاب، و3,6 مليون دولار لتكاليف الأمن الداخلى للحرب، و9,25 ملايين دولار للفوائد على ديون الحرب، و7,02 مليون دولار للتكاليف العسكرية للحرب على الإرهاب.

• • •

كذلك تتعدد صور الاستنزاف الاقتصادى غير المباشر وغير المنظور التى يتسبب فيها بسط وتحقيق الأمن العام فى البلاد. من ذلك ما يتعلّق بزيادة سيطرة الجهات الأمنية على مختلف أوجه النشاط البشرى فى الدول. وعندما تتعدّد طبقات وتصنيفات تلك الجهات الأمنية، فإن الشائع تاريخيا هو تعارض مصالحها وتنازع اختصاصها وتناحرها على حساب المصلحة العامة فى المقام الأول. التدخّل الأمنى فى حركة النشاط الاقتصادى لا يشترط أن يكون فى صورة امتلاك الأصول أو حتى إدارتها بشكل مباشر، ولكنه ينطوى (فى عدد من التجارب الدولية) على تدخّل فى التعيينات فى المراكز والوظائف الحيوية، بما يخدم المصلحة الأمنية (من المنظور الضيق للجهة صاحبة قرار التعيين) وليس بالضرورة ما يخدم المصلحة العليا للبلاد.
وقد استغلّت الولايات المتحدة الأمريكية حالة الهوس الأمنى فى الاتحاد السوفيتى السابق وعمدت إلى تجنيد من كانت لهم سلطة توزيع المناصب الهامة داخل الاتحاد.. بالتأكيد عمل هؤلاء الجواسيس على وضع منعدمى وقليلى الكفاءات فى مواقع المسئولية، بما أضر بمؤسسات الدولة، وحقق انهيارا اقتصاديا مؤكدا للاتحاد السوفييتى، نتج عنه سقوط وتفكك الاتحاد فى سنوات قليلة. يرجّح البعض أن هذا النوع من النشاط الاستخباراتى كانت آثاره التدميرية على القطب الثانى العالمى، أكثر تدميرا من أى سلاح آخر.
على الناحية الأخرى، كان الهوس «المكارثى» بالخوف من المد الشيوعى فى الداخل الأمريكى معول تدمير ذاتى لقدرات الولايات المتحدة الأمريكية. فقد انتشر فى معقل الحريات ما يشبه محاكم التفتيش التى عملت على إقصاء العديد من الكفاءات عن مواقع المسئولية، بزعم أنهم على اتصال بالعقيدة أو التنظيمات الشيوعية. واعتبر التصريح الأمنى من أبرز أدوات الجهات الأمنية لإقصاء الكثيرين عن مواقع العمل والمسئولية، ولنا فى مقال سابق عن عالم الذرة الشهير «أوبنهايمر» مثال هام على فترة انتشار المكارثية فى المجتمع الأمريكى، وكيف ساهم ذلك التيار فى تأخّر وتثبيط الإبداع والتنمية وحركة النشاط والإعمار فى أمريكا بشكل عام.
الخوف من المد الشيوعى كان مشروعا، ولكن تكلفة مقاومته كانت كبيرة، ولا تقارن بحقيقة الخطر، سواء ما يتعلّق باحتمال وقوعه أو بالضرر الذى يمكن أن يتسبب فيه إن تحقق. هذه واحدة من التكاليف غير المنظورة لتحقيق الأمن والسلام المجتمعى. والتاريخ الحديث والقديم يغص بالأمثلة الدالة على أن الهوس الأمنى يمكن أن يتسبب فى أضرار «مؤكدة»، أكبر بكثير من تلك التى كانت «محتملة» حال ارتخاء القبضة الأمنية.

• • •

علينا إذن أن ننظر بعين الاعتبار إلى التكاليف الاقتصادية لتحقيق الأمن من زوايا عدة. ما ينفق على مشتريات السلاح، والوقود، والتأهيل، والبرامج والمعدات.. قد لا يشكّل الجانب الأكبر من تكلفة تحقيق الأمن. فالتكاليف المتعلقة بغياب ترشيد القرارات المتصلة بالأمن عادة ما تكون أكبر وأعمق أثرا، خاصة إذا تسببت فى زعزعة مفهوم الأمن، وخلق بؤر للإرهاب، وتدمير حوافز العمل والإنتاج، وتخريب المؤسسات من الداخل. لم أتعرّض هنا إلى تكلفة إزهاق الأرواح التى كانت وما تزال تدفع على هامش حروب خرقاء تندلع باسم محاربة الإرهاب، كالتى تقودها اليوم دولة الاحتلال الإسرائيلى ضد المواطنين العزّل فى غزة والضفة الغربية.. فالنفس البشرية أغلى من أن تقدّر بثمن، على الرغم من أن الأثر الاقتصادى لإزهاق تلك الأرواح هو الأكبر على الإطلاق، إذا ما وضع فى ميزان الإنتاجية والاستهلاك والإبداع.. وهى موازين برجماتية عملية لا تعرف العاطفة البشرية إليها سبيلا.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات