عندى رأى شخصى جدا، وهو ان الله رزق هذا البلد بأصوات غنائية جميلة جدا يلمع جمالها وهى تغنى أغنيات شعبية.
والشعبى ليس هو النمط الغنائى الشائع الآن وانما هو النمط المقبول فى كل الطبقات، فأم كلثوم عندى مطربة شعبية بهذا المعنى.
ويعرف محترفو الاستماع إلى اذاعة الأغانى التى يحتلها صوت محرم فؤاد عمال على بطال، أنه على الرغم من هذا الاحتلال غير المفهوم، فإنه لا يمكن أبدا الافلات من سحر أصوات شجية مثل محمد عبدالمطلب وحورية حسن وسعاد مكاوى وشادية وهدى سلطان وكارم محمود ومحمد قنديل ومحمد رشدى وأحمد عدوية وهذه الاصوات بما لديها من مميزات ليس لها حضور فى الاذاعة التى احتكرها صوت محرم وحرم علينا وجودها لعلة لا نفهمها، ومع ذلك فهى تؤكد قيمة شعار «التنوع الخلاق»
ولكل صوت فيها خصائصه المميزة وشخصيته التى لا تتشابه مع أى صوت آخر.
وقد يعتقد المستمع العابر أنهم جميعا نشأوا من طينة واحدة أو انطلقوا من نقطة واحدة ومشوا جميعا فى شارع واحد وفى هذا الاعتقاد الكثير من الظلم والافتراء الذى يفنده كتاب (رشدى.. موال أهل البلد غنوه) الصادر عن دار ريشة للصحفى المبدع سعيد الشحات.
وفى الكتاب مميزات عدة، فهو ينصف تجربة فنية وانسانية كبيرة لفنان رائع هو محمد رشدى كان أحد أنجح التجارب الغنائية الشعبية فى تاريخنا، وكان لصوته رنة خاصة وماركة مسجلة لا يمكن تفادى قدرتها على ان تكون جزءا من التفاصيل اليومية لأجيال وأجيال من المستمعين.
عاصر رشدى وعايش وجاور وناطح ونافس كل هذه الأصوات مجتمعة واستطاع أن يخلق لنجوميته أفقا عريضا، ومسارا صاعدا يندر أن يتكرر.
ومنذ ان وقعت فى يدى بالمصادفة الحلقات التى كان ينشرها الشحات صحفيا، من مذكرات رشدى وأنا اطالبه باستكمالها ونشرها وتحقيقها.
وها هو قد فعل أخيرا وأتاح لنا وثيقة تاريخية وفنية دالة على زمنها وعلى زماننا أيضا حيث لا تختلف قصة صعود رشدى عن قصة مصر عقب يوليو 1952.
ولقد أسعدنى زمانى قبل سنوات باللقاء مع رشدى وجها لوجه وفى ظرف انسانى بالغ الدقة وقت أن كان صديق عمره الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودى يعالج من أزمة صحية داهمته.
وفى المستشفى رأيت رشدى يبكى على سرير الابنودى الذى كان يضحك ليخفف توتره ويقاوم فى رفيقه هذا الحس البرىء والخوف على نصفه الثانى وبقيت بينهما اتابع الدروس التى كان يعطيها الابنودى لرشدى لعله يتجاوز طابعه الريفى البسيط ليصبح نجما بالمعنى الذى يريده وكانت بيننا سيدة جميلة جاءت لتطمئن فوجدت رشدى وأرادت ان تعبر له عن اعجابها بصوته، بينما غرق هو فى موجات من خجل لا ينتهى فقال له الابنودى بطريقته المعروفة: «عرفتك فلاح وهتفضل فلاح»
وهذا بالضبط هو الانطباع الذى تخرج به من قراءة الكتاب الذى يأخذك فورا لأقرب وسيط الكترونى لتستمع إلى صوت عذب مبلل بالندى، ومطرز بآيات من الحنين والمعطر بروائح النعناع والريحان، صوت كفيل ببث موجات من الأمل والبهجة التى لا نظير لها، يهتز فى وجدانك كلوز النوار ويسطع فى روحك مثل زهرة عباد الشمس ويلمع كأعواد القمح التى قال صلاح جاهين فى وصفها: «القمح مش زى الدهب، القمح زى الفلاحين» وهكذا منح رشدى لما يغنيه نكهة راسخة فى الوجدان.
وجانب من جوانب الجمال فى الكتاب أن صاحبه صحفى متمرس يكتب بحس المؤرخ ووعيه وبالتالى فهو معنى بتحقيق الوقائع التى ترد فى الكتاب وتأصيلها من مصادر مختلفة ليضع أمام القارئ السياق الموضوعى الذى يمكنه من إدراك قيمة التجربة الفنية فى صعودها الموازى لصعود مجتمعى جاء بعد يوليو 1952.
ويكشف الكتاب بجمال حقيقى كيف أن رحلة رشدى كانت الترجمة الحية لشعارات يوليو ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة ان يرتبط نجاحه بصعود صوت عبدالحليم حافظ الذى امتلك كما قال الراحل محمود عوض أكبر مجلس ادارة لموهبته وتعامل رشدى كشريك فى الرحلة ومنافس فى بلوغ آذان المستمعين ويقدم الكتاب للمستمع صورة أمينة لهذا العصر الذى كانت فيه الاذاعة مؤسسة تعبر عن دولة لديها خطة ورؤية واهداف.
ومهما بلغت درجة الخلاف مع يوليو ورجالها فإنه لا يمكن الا القول بانصاف تام أن رشدى وشركاه كانوا أبناء تلك اللحظة التاريخية بحلاوتها ومرارتها وعبروا عنها بالصدق اللازم وبالايمان التام بما كانت ترغب فى تأكيده، فلم يكن رشدى كما يظهره الكتاب مجرد مطرب عذب الصوت وانما عاش ومات وهو فنان لديه ما يفكر فيه ويعتنى بإظهاره.