فى حياة فقيدنا العظيم الدكتور فؤاد زكريا، الذى رحل عن دنيانا منذ أسبوع (11 مارس 2010) أشياء مدهشة يندر أن تجتمع فى شخص واحد.
كان يملك عقلا قاطعا كالسيف، قادرا على التصدى لأعقد المشاكل الفكرية والفلسفية، ولكنه إذا جلس ليكتب كتب بأسلوب بالغ السهولة وعبارات واضحة تمام الوضوح.
كان أستاذا للفلسفة فى الجامعة، ولكنه لم يتردد فى الاشتراك فى معارك صحفية، فله فى كل شأن عام رأى، مما يحجم عنه عادة الأساتذة الجامعيون.
مؤمن إيمان عميق بالديمقراطية ولا يرى أن من الممكن تحقيق أى تقدم بدونها، ولكنه قادر دائما على تحدى الغوغائية، وعلى اتخاذ مواقف تتعارض مع ما تتبناه الجماهير الغفيرة، والتعبير عن مواقفه بكل صراحة وشجاعة.
يحب وطنه حبا جما، ويتبنى قضاياه ويحارب أعداءه، ولكنه ليس مستعدا لمجاراة زعيم وطنى يتبنى نفس القضايا ويحارب نفس الأعداء، إذ رأه يتنكر لقضية الديمقراطية.
يتعاطف مع الفقراء ويتبنى قضية العدالة الاجتماعية، ولكنه يستنكر معظم الماركسيين عندما يراهم يتعاونون مع الحكم ويؤيدونه، متذرعين بأمل زائف فى أن يحقق هذا الحاكم أهدافهم البعيدة.
يقبل أن يرأس تحرير مجلات ثقافية حكومية، رغم ما لديه من اعتراضات مهمة على سياسة الحكومة، ويقبل مناصب مهمة فى هيئات ثقافية حكومية، طالما شعر بأنه لا يزال يملك من الحرية ما يسمح له بخدمة الثقافة، ولكنه يتخلى عن هذا المنصب وذاك بمجرد أن يشعر بأنه لم يعد قادرا على تنفيذ أفكاره.
دخل كل المعارك وبقى نظيفا. وكان لديه من الشجاعة ما يجعله ينتقد بكل صراحة أشخاصا مهمين أو حكاما قادرين على إيذائه، أو آراء يجمع عليها العامة. وكأنه يرفض الاعتقاد بجدوى البقاء نظيفا عن طريق إيثار السلامة، وتجنب أى معركة قد يلوث فيها المرء يديه أو ثيابه. إذ ما جدوى النظافة فى هذه الحالة؟ لقد انتقد النظام الناصرى بقوة، وانتقد الماركسية، وانتقد الانبهار الساذج بالنموذج الأمريكى فى الحياة، كما انتقد بقوة التفسير اللاعقلانى والغوغائى للدين. وخرج من كل هذه المعارك سالما ومحترما، وحظى بالتقدير الكامل وإن لم يحظ بالشعبية.
من الواضح أن القيمة العليا فى نظره كانت تغليب العقل، والتعبير عما يقضى به المنطق السليم بصرف النظر عما يمكن أن ينتج عن ذلك من مكافأة أو عقاب بذلك يمكن اعتباره بكل جدارة فولتير مصر، ولكنه لم يحظ فى بلده مثلما حظى به فولتير فى فرنسا من مجد. إذ كان فولتير يكتب وفرنسا فى حالة صعود وازدهار، بينما كان فؤاد زكريا يكتب ومصر فى حالة تدهور وانكسار.
لم يكن غريبا إذن أن تتأخر عنه جوائز الدولة، وألا يحظى منها بما حظى به غيره الأقل منه قدرا ولكنهم الأجرأ فى تملق الحكام. ومع ذلك فلم يصدر عنه قط أى تعبير عن سخط أو تبرم من أن الدولة لم تعامله المعاملة التى يستحقها. كان من الواضح أن المكافأة الحقيقية فى نظره هى أن يكون راضيا عن نفسه، وقد حظى بهذه المكافأة، فيما يبدو لى، حتى آخر لحظة فى حياته.
اشتركت معه فى معركة صحفية صغيرة، منذ نحو ثلاثين عاما، أعتقد الآن أنه كان فيها أكثر حكمة منى. فقد نشر مقالا فى مجلة الهلال، بمناسبة ذكرى هزيمة 1967، قال فيه إننا هزمنا فى هذه الحرب بسبب غياب الديمقراطية. فرددت عليه فى نفس المجلة بمقال بعنوان «دفاع نبيل عن قضية باطلة»، قلت فيه إننا كنا سننهزم لا محالة، فى ظل تصميم الولايات المتحدة على ضربنا، وبالنظر إلى ضعفنا العسكرى بالنسبة للقوة الأمريكية التى تدعم إسرائيل، وسواء كان لدينا نظام ديمقراطى أو لم يكن.
قلت إن القضية التى يدافع عنها د. فؤاد زكريا، وهى الديمقراطية، قضية نبيلة بلا شك، ولكن التفسير الذى تبناه لم يكن التفسير الصحيح للهزيمة مازلت أعتقد أن تفسيرى كان أقرب إلى الصحة من تفسيره، ولكنه كان أكثر حكمة منى فى اختيار التأكيد على قضية الديمقراطية فى وقت كنا محرومين فيه منها (وكما بقينا حتى الآن). وصلنى عن طريق رئيس التحرير آنذاك (الأستاذ مصطفى نبيل) أن فؤاد زكريا عبر له عن استيائه الشديد من موقفى، وأظن أننى لو كنت أكبر سنا فى ذلك الوقت أو أكثر حكمة، ما كتبت ذلك المقال.
قبل وفاة د. فؤاد زكريا بأسابيع قليلة نشرت له جريدة الأهرام (فى الملحق الأدبى 22 يناير 2010) مقالا غريبا بعد غياب طويل جدا له عن الكتابة فى الصحف، بسبب ما كان يعانى منه من حرص وضعف البصر. كانت رؤية اسمه على المقال سارة ومدهشة، ولكن الأكثر إدهاشا كان موضوع المقال، إذ بدا وكأنه يأتى إلينا من كوكب آخر لا يعرف أهله ما مر به سكان كوكب الأرض (وخاصة سكان مصر) من محن خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الأخيرة.
كان عنوان المقال «محنة الموسيقى الكلاسيكية فى البرنامج الموسيقى» وشكا د. زكريا فيه من عيبين وجدهما فى البرنامج الموسيقى فى الإذاعة المصرية، أحدهما يتعلق بمحتوى هذه البرامج والآخر بطريقة تقديمها. أما عن المحتوى، فقد اشتكى الدكتور زكريا من سوء اختيار ما يذاع فيها من موسيقى، ومن ذلك تجاهلها الشديد لموسيقى بيتهوفن. فيقول فى براءة محببة: «هل يذكر أحد كم سنة مضت منذ أول مرة اذيعت فيها سوناتا البيانو العظيمة رقم 29، (لبيتهوفن) وكذلك السوناتا..... إلخ؟».
الدكتور فؤاد زكريا معروف منذ زمن طويل بعشقه للموسيقى، وخاصة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكنت قرأت كتابا صغيرا وجميلا اسمه «التعبير الموسيقى»، وأنا فى نحو العشرين، ولم يكن هو قد بلغ الثلاثين، ومازلت احتفظ بهذا الكتاب حتى الآن من شدة إعجابى به، ولكنى لم أكن أتوقع أن الدكتور زكريا وقد جاوز الثمانين سوف يكتب محاولا «إصلاح» حالة الموسيقى فى الإذاعة المصرية، والناس مشغولون بطريقة الحصول على أنابيب البوتاجاز، وتدبير تكاليف الدروس الخصوصية، قلت لنفسى، عندما قرأت المقال، ما أشد نقاء وبراءة هذا الرجل، وما أشد حبه للإصلاح فى أى مجال يطوف بذهنه. وما أشد أسفنا الآن، وقد سمعنا بوفاته، أن نفقد رجلا مثله.