مبارك متشبث بالمقعد والداخلية تعمل ضدنا. قتلوا حتى الآن على الأقل ١٤٥ مواطنا، وتتسرب الأخبار عن قتل فى السجون، عن جثامين يجدها الناس على الطرق السريعة، عن محاولات للسطو فى مبانى مؤسسات الدولة، عن إشعال الحرائق – كلها يقوم بها رجال محسوبون على الداخلية. إلى جوارنا تتفجر ليبيا وإلى جنوبنا يتفتت السودان وإلى شرقنا هناك دائما اسرائيل، اسرائيل التى تعلن قلقها على مبارك وتصفه بـ«الكنز الاستراتيجي» (وهو ما نعلمه عنه من زمن وما يشكل جزءا كبيرا من مشكلاتنا معه). وبيننا وبين كل هذا يقف جيشُنا: أشقاؤنا وأزواجنا وأبناؤنا. لا يصل عددهم إلى الأربعمائة ألف فرد، ومنذ الخامس والعشرين اضطروا إلى الانتشار سريعا فى محافظات مصر السته وعشرين، والآن عليهم تأمين المدن ايضأ. هم فى النهاية كبقية الشعب: القشرة العليا جزءٌ من النظام، استفادت منه فكونت ثروات بالملايين، المجندون والجنود مصريون عاديون يجرون وراء لقمة العيش الشحيحة، أما الضباط والرتب الوسطى فعندهم نفس الأحلام والمخاوف والغضب والطموحات والمهادنات التى عندنا، وهم فى الأغلب لا يحبون الوضع المخزى الذى تجد مصر نفسها فيه، وفى الأغلب يفضلون ألا يكونوا كلابا وفية للولايات المتحدة وإسرائيل، يُسمح لها بالمأوى والمأكل طالما تلزم حدودها ــ وهم فى الأغلب يفضلون أن يكون لهم وطن محترم نتحمل فيه مسئولية أنفسنا ونعمل كُلُّنا لنضمن للجميع العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
نعرف أن القوات المسلحة تحصل على كميات كبيرة من المعونة الأمريكية. ونعلم أنها تتحكم فى نحو ثلث الناتج القومى لبلادنا، وأنها قد تحولت إلى امبراطورية أعمال ضخمة، نعلم أن فى القوات المسلحة ــ كما فى الحكومة والدولة وكما خارج مصر ــ هناك مصالح ضخمة ــ بل أضخم مصالح ممكنة – لا تحب لنا ما نحب لأنفسنا، لكننا فى اللحظة الحالية نراهن على أن التوازنات بداخل القوات المسلحة سوف تمنعها من أن تؤذينا. فى اللحظة الحالية علينا أن نتعامل مع القوى الأخرى المحتشدة ضدنا بداخل وخارج مصر، القوى التى تستكثر علينا أرضنا وموقعنا، الطامعة فى مواردنا وتاريخنا وانصياعنا، والتى تريدنا خارج الكثير من المعادلات فى منطقتنا وفى العالم. ينشبون أظافرهم فينا ويمتصون دماءنا وعقولنا وصحتنا وإرادتنا، وإن لم ننتزعهم عنا لن يكون من نصيبنا حتى ذلك الموت الذى هو تحرر ورحمة بل سيكون ذلك الموت الحى؛ موت الـ«زومبي» ــ الأحياء الأموات، مُفَرَّغون من أنفسنا ونُمَثِّل فقط دور مواطنى مصر، مصر التى لهم وليست لنا.
عيش، حرية، عدالة اجتماعية. كم مواطنا جاء إلى مليونية اليوم؟ القوات المسلحة تقول اتنين مليون فى القاهرة وأربعة ملايين عبر الجمهورية، وهذه الملايين تبدو كمن أفاق من سحر. نحن سعداء. نحن مذهولون. نلتفت كل إلى الآخر لنتساءل ونتطمئن. رجل يسأل كيف فَرَّقونا هكذا؟ كيف جعلونا نخاف من بعض هكذا؟ ورجل آخرــ ترتاح يده على كتف ابنه ــ يقول لى، مكملا حوارا كان يمكن أن نكون بدأناه: «بِجَدّ، أنا كنت متضايق منه فعلا وهو طول النهار قاعد على الكمبيوتر. دلوقتى شوفى هو وأصحابه عملوا إيه! كل احترام! كل احترام!» أقام الناس الخيام فى الصينية. فى خيمة شابات يجمعن ما صوره الناس من تعذيب الداخلية، فى خيمة أخرى يرصون زجاجات المياه والبقسماط والخبز الناشف. أجلس على الأرض فأجدنى قد جلست إلى جانب الزوجة المنتقبة لرجل فى ثوب أبيض قصير وطاقية. هل ستضايقهم جلستي؟ يلمح هو نظرتى السريعة: «بتبصيلى عشان بِدَقن وبادخَّن؟» ثم بابتسامة واسعة: «أنا بس كنت مش لاقى حق الموس، لما يرحل هاشترى كل الأمواس اللى عايزها!» صرنا اصدقاء فى لحظة. وألتقى ايضا أصدقاء قدامى. أمشى فى الميدان فأجد أصدقاء أعرف أنهم يعيشون فى بروكسل، فى الدوحة، فى واشنطن، فى لندن. الكل ترك كل شىء وعاد إلى الديار يمشى فى الميدان بعيون واسعة وشحوب العواطف العاصفة. نلتقى بالأحضان: «وانت كمان؟ طبعا أكيد كان لازم تيجى»، نقولها ونحن نربت على أكتاف بعضنا البعض. للحظة أجد عمر إلى جانبى: « كنتى تتصورى الثورة يبقى شكلها كده ؟» كل المساوئ التى عانى منها مجتمعنا فى العقود الماضية اختفت فى ساعات. شباب – هو نفس الشباب الذى يتحرش بالسيدات والشابات فى الشوارع ــ صار تجسيدا للشهامة. الناس تعزم على بعض بالبسكوت، بالتمر، بالمياة. يتحادث الناس مع بعض. نتسابق على التقاط القمامة من الأرض. نستمتع بأنفسنا، بلَمَّتنا، بكرمنا، بحس الفكاهة الذى نحبه فينا. طلبة، رجال أعمال، جرسونات، أساتذة جامعة، فلاحين، موظفين، مُعَطَّلين – كلنا هنا اليوم معا، كلنا نقوم بما حُرِمنا منه لعقود: كل فرد يتكلم، يفعل، يعبر عن نفسه ويصر على أن يكون رأيه محسوبا.
مجموعة من نحو ثلاثين من الشباب الأجنبى يقفون بجوار الصينية يوزعون المنشورات المكتوبة بالعربية والإنجليزية والفرنسية ويحملون لافتة ضخمة مكتوبا عليها «خواجات مصر يحيون الثورة».
إعلام الدنيا كله هنا. «لا أدرى إن كان يصح أن أقول هذاــ«تقول إحدى الصحفيات متعجبة «لكن الموقف هنا يذكرنى – يذكرنى بوودستوك!» يُفْرحنى ما تقول. فى حوار مبكر ذلك الصباح كنت قد أكدت لمحاورى من أساطين إعلاميى البى بى سى أن التحرير له سمة الاحتفالية الكبرى. صحفية أخرى تنهمر دموعها: «لنا ثلاثون عاما نتناقش حول الثورات، وهل يمكن للثورة أن تكون خَيِّرَة، والآن، ها هى ثورة الخير، قمتم بها، هكذا ــ « أرى جون سنو من «أخبار القناة الرابعة» فى لندن، وأرى ميديا بنجامين من «كود بِنك» فى واشنطن. من قمة شجرة يبزغ ببطء رجل ذراعاه مربوطة فيها فروع خضراء طويلة ويبدأ فى الرقص التعبيرى البطىء وكأنه روح الشجرة تستيقظ. رجل آخر يعتمر عمامة ضخمة ويبدأ فى أداء دور «الخبير الهندى المستر نانا» الذى جاء لينصحنا كيف ندير ثورتنا. المنصات أقيمت، وفرق موسيقية مختلفة تعزف..
لكن هناك أيضا شرائط سوداء تتطاير، وصور، صور، صور، للشباب الذين قتلهم النظام فى الأيام الستة الماضية. شهداؤنا. سويا نصلى عليهم صلاة الغائب. «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون».
الميدان يرعانا ويغذينا: هذا هو المتحف المصرى، بيت أجدادنا، حامل تراثنا، شاهد على من نحن ــ حماة شبابنا. وهذه جامعة الدول العربية، نموذج للموت الحى الذى كان يُخَطَّط لنا، سننفخ فيها فتحيا. هذا هو الميدان الذى لا يتوسطه نصب أو تمثال؛ غياب القائد متجسد فى التحرير ــ أى حظ سعيد رسم هذا؟ من جوانب الميدان الشيخ عمر مكرم والثائر سيمون بوليفار والفريق عبدالمنعم رياض يرعون ثورتنا ويباركونها. الطرق العظيمة إلى مؤسسات البلاد وجوانب الحياة فيها تنبثق عن التحرير: شامبليون إلى دار القضاء العالى والنقابات، وقصر العينى إلى البرلمان ومجلس الوزراء ثم إلى المستشفيات التعليمية الكبرى، التحرير إلى قصر عابدين ثم قلعة صلاح الدين، طلعت حرب إلى وسط البلد والعتبة وعالم الأعمال والتجارة عصب الحياة، ثم إلى الأزهر الشريف، والجلاء إلى محطة مصر ثم الكاتدرائية والكرسى البابوى المرقصى ــ وإلى جوارك هنا، هنا، حيث تستطيع أن تمد يدك فتلمسه ــ يجرى نهر النيل.
فى الرواية التى كنت أعمل عليها قبل قيام الثورة هناك مشهد كتبته فى أغسطس ٢٠٠٧: "ندى" تُحدث "آسيا" عن المتحف:
ــ فعلا حاجة لا تصدق، كأن المدينة نفسها مش بتاعتنا، عسكرى وقفنى قريب من المتحف فى التحرير امبارح ــ فى وسط القاهرة ــ قال لى ممنوع المشى هنا! أنا ماصدقتش. يعنى ايه ممنوع؟ ممنوع. شاورتله على مجموعة ناس داخلين المتحف، قال لى دول أجانب! قلت يعنى أنا ممنوع أمشى جنب المتحف عشان أنا مش أجنبية؟ إنت بتتكلم جد؟ طب لو عاوزه أدخل المتحف أعمل إيه؟ قاللى وتدخلى المتحف ليه؟ قلت له انت مش واخد بالك أن اسمه المتحف المصري؟ ومش واخد بالك ان الميدان ده اسمه ميدان التحرير؟ إنت عارف التحرير ده كان من مين؟ كان من الأجانب ــ قاللى روحى حضرتك كلمى الظابط ــ
صيحة عظيمة تصعد من الميدان: "إرحل! إرحل!" الكل ينظر فى نفس الاتجاه، نحو إحدى عمائر الجانب الشرقى من الميدان، من شرفة فى دور عال يبدأ بانر طويل فى النزول على واجهة العمارة، ينساب، يتهادى، ينتفض: "إرحل! عايزين نتنفس!" فى الشرفة تمسك بطرف البانر شابة ذات شعر طويل متجعد تتقافز وذراعها مرفوعة إلى أعلى ويدها ترسم علامة النصر. الجمع فى الميدان يجيبها، يرفع يده فى علامة النصر ويهتف: "إرحل! إرحل!"
التحرير معنى بكرامتنا وبصورتنا كما هو معنى باقتصادنا وبالفساد الذى دب فيه. يؤلمنا كم عبث هذا النظام بدماغنا، كم فرّقنا، كم ظلمنا وافترى علينا واغتابنا أمام أنفسنا وأمام العالم. يقول عامل شاب «بيقولوا احنا ما بنهتمش غير برغيف العيش، طب ما احنا طبعا بنهتم برغيف العيش، بس كمان بنهتم بكرامتنا". معا فى الميدان فى الأيام الأربعة الماضية أعدنا اكتشاف حبنا المشروع لأنفسنا ولبعض، – وبالرغم من السذاجة البادية فى هذه الجملة ــ كم نحن طيبون. أسعل فيضع أحدهم منديلا ورقيا فى يدى. وطوال الوقت تستمر الهتافات، وتتبلور المطالب، والكل يتناقش فى اختيارات المستقبل. لا يمكن التنبؤ بما سيحدث، لكنى أنظر حولى وأعرف أن هذه الثورة لن تتوقف. ليس هناك شخص ــ شخص واحد، شخص واحد منا ــ سوف يقبل بالعودة إلى الكابوس الذى صحونا منه.
انقطـــــاع مؤقت
كل السابق كتبته منذ ثمانية أشهر، والآن نعرف بالطبع ماذا حدث بعد ذلك: سقط حسنى مبارك فى ١١ فبراير، واحتفلنا واحتفل العالم معنا. تقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ودباباته ومدرعاته رابضة فى شوارعنا، وأدى التحية العسكرية لشهدائنا، وأعلن إيمانه بثورتنا، ووعد بحمايتها وحماية الشعب وتنظيم الانتقال إلى الديمقراطية. ونحن ــ تركنا الميدان.
لكنى أريد أن أتوقف لحظة ونحن مازلنا هناك فى الميدان، أريد أن أقاطع روايتى للأيام الثمانية عشر لأحكى لكم القصة المستمرة لثورتنا. فالقصة تستمر، لم نتوقف حتى إن كنا فد اختفينا، حاليا، من على شاشات تليفزيونات العالم.
هذا النص ليس تأريخا لحدث قد مر، بل هو محاولة لاستدراج القارئ وإشراكه فى حدث مازلنا نعيشه. وعندى إشكاليتان فى كتابته؛ الأولى هى أن الـ«ثمانية عشر يوما» هى حبيسة الماضى لكن الثورة والكفاح للتمسك بالثورة مستمران، والمشاهد والمشاعر تتلاحق وتتغير بأسرع من قدرة الكتابة على رصدها. والثانية هى أنك، يا قارئى، تقرأنى فى مستقبل أجهله، لكنى أريد لكتابى هذا أن ييسر لك الربط بين أحوال مصر فى ذلك المستقبل وأحوالها فى لحظة الكتابة هذه.
أكتب، فى أكتوبر ٢٠١١، وأتخيلك تمسك بكتابى وتقرأ هذه الكلمات بعد شهور أو سنين. ما هو الواقع الذى تراه حولك الآن؟ على أى حال، وأيا كان هذا الواقع، أيا كان هذا المستقبل الذى لا أراه، فهو ما نحاول اليوم ــ ما نكافح ونموت ــ من أجل أن نشكله.
نحن فى ساعاتنا الأخيرة معا، أنا وهذا النص، الساعات الأخيرة المتاحة لى لأكتب لك. والكتابة صعبة لأن الأحداث المستمرة تدفع بقلمى فى اتجاهات متغايرة، وأحيانا تجعلنى أضعه جانبا، يرتفع بصرى من المكتب إلى النافذة، وأشرد.