زمران النخل - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 4:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زمران النخل

نشر فى : الثلاثاء 19 مارس 2024 - 7:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 مارس 2024 - 7:05 م

غادرت الدلنجات قاصدًا نوقراتيس ذات التاريخ اليونانى التى حرف العرب اسمها إلى نقراش. لولا اسم النقراشى باشا رئيس الوزراء فى العهد الملكى والذى يتردد دومًا فى عبارة «واقعة اغتيال النقراشى» لما سمع الناس بهذه البلدة فى عمق غرب الدلتا بمحافظة البحيرة.
ألقيتُ نظرة على بلدة تسعى للالتحام العمرانى بالدلنجات تحمل اسم «زمران النخل»، المدهش أن الأكثر علوا هنا ليس النخل المتجمع زمرًا؛ بل الأبنية المتلاحمة التى تحاول اللحاق بالدلنجات لتشكل مجتمعًا حضريًا واحدًا.
«زمران النخل» اسم جميل يبعث على البهجة تمامًا كما كان اسم «عزبة النخل» فى شمال القاهرة التى تحولت إلى مارد خرسانى ولم يعد لها من النخل سوى الاسم القديم. هل يذكر أحد من أهل القاهرة أرض «المرج» التى كانت قبل نصف قرن حدائق وأعناب ونخيل ابتلعها غول البناء الخرسانى؟
ها هى الدلنجات تقلد أسوأ ما فى القاهرة، فبعد أن ابتعلت «عزبة فهمى» و«عزبة حنا غبريال» إذا بها تنادى على «زمران النخل» و«زاوية مِسَلَّم» و«الجابوصى» و«المخازن» وقريبًا تلحق بهم «زاوية أبو شوشة».
وكما أننا اليوم فى القاهرة نعجب من أن عزبة «النخل» ليس فيها نخيل فإن أهل الدلنجات سيتعجبون فى السنوات القريبة من أن عزبة «قمحة» الواقعة جنوب غرب المدينة لن تحمل من القمح سوى الاسم.
الطريق إلى نوقراطيس لا يقل أهمية عن الوصول إليها، مررت بـ«جزائر عيسى» وعزبة «عمر أفندى» ومن هناك أخذت دليلًا وعربة توكتوك منطلقًا إلى وجهتى. حتى استوقفنا عند بلدة جبارس مسجد أثرى عظيم لا يقل بهاء عن مساجد القاهرة المملوكية، يحمل اسم السلطان حسين كامل الذى حكم مصر ولا نعرف عنه الكثير فى تلك الفترة الفارقة من تاريخ بلادنا قبيل الحرب العالمية الأولى.
حاولت دخول المسجد لكنه كان مغلقًا لأعمال الترميم، سألت دليلى فأخبرنى أن هناك مشاكل كثيرة حول المسجد، آخرها ما يتناقله البعض من أن واحدًا من المقاولين فى الترميم اختفى أثره بعد أن نهب بعضًا من محتويات المسجد الأثرية. صورة المسجد تدل على استخدام النوافذ والأشرعة والبوابات فى إدخال ضوء النهار الساطع بحساب وموازنة لتحقيق ظل رطب فى الداخل مع ضوء قابل للتحكم عبر نوافذ زجاجية ملونة، وهى عمارة ذكية تتفق مع المناخ والبيئة.
أدخل «النقراش» فلا أجد فيها سوى مصارف وترع وبيوت زراعية وحقول مبعثرة. يتعاظم الأسف حين وجدتها بلدة تائهة عند مفترق الطرق لا تعرف ما هى وظيفتها الحقيقية أو هويتها المميزة. من دون تعجل، سأبحث عمن يساعدنى من أهل البلدة. سألت جمع من الناس على مقهى عند المفارق فلم يبد أن لديهم وقتًا ولا رغبة فى الإجابة على هذه الأسئلة الحمقاء عن اليونان والنقراش. وقبل أن تتسرب خيبة الأمل، دوى فى سماء النقراش فجأة آذان العصر، تذكرت أن المساجد عادت للصلاة فدلفت إلى مسجد البلدة الكبير الذى تباعد فيه المصلون عن بعضهم البعض تلبية لاحترازات كورونا.
أخرجت ورقة بيضاء فلوسكاب من حقيبة ظهرى واتخذتها مصلية حتى لا أسجد على نفس المكان الذى سجد عليه آخرون من قبلى. قفزت إلى عقلى فجأة أول مرة رأيت فيها مسلمًا يصلى على ورقة بيضاء فى مسجد بمدينة سان بطرسبرج فى روسيا عام 1997 أثناء دراستى للدكتوراه. فى هذا المسجد العريق الذى يقف على مصب نهر النيفا فى بحر البلطيق والذى صلى فيه جمال عبدالناصر، كان يجمعنا الكثير من التعارف والخبرات المتبادلة نحن أبناء البلاد العربية والتترية والشيشانية والإفريقية، الضحكات والدعابات تنطلق عقب الصلاة فى ساحة المسجد الذى يراقبه عن كثب عدد وافر من قوات الشرطة الروسية.
بعد ثلاث أو أربع مرات فى صلاة الجمعة تجرأت وسألت واحدًا من هؤلاء الذين يصلون على ورقة بيضاء وجاءوا من بلاد الشام: «لماذا لا تصلى مباشرة على السجاد مثلنا؟» فأجابنى بلطف وحكمة: «انظر يا أخى، هذا سجاد ناقل للأمراض من شخص لآخر، وليس لى من هدف فى هذه الورقة البيضاء سوى اتقاء العدوى».
كانت إجابة ذكية وسابقة التحضير لمواجهة الجهلاء المتطفلين من أمثالى. ستمر عدة سنوات قبل أن أصلى لأول مرة مستكشفًا مسجدًا للأخوة الشيعة فى دولة خليجية. كانت عقيدتى أننا أبناء قبلة واحدة رغم اختلاف المذاهب فلبيت دعوة صديقى الشيعى لصلاة العشاء ورؤية كيف يصلى أبناء ذات القبلة. سحب صديقى لنفسه ولى قطعتين من تربة كربلاء من صندوق داخل المسجد كى نتخذها موضعا للسجود، اعتذرت بابتسامة معهودة دون نطق كلمة واخترت الصلاة على السجاد مباشرة.
أسباب الصلاة على تربة من كربلاء مفهومة بحكم التاريخ المقدس لمعركة استشهاد الحسين ولها مبررات تلقى إعجاب أصحاب الهوى اليسارى أو الثورى فى التيار السنى وأهم هذه المبررات أنها طريقة لرفض السجود على سجاد مخملى فخيم (رمز أهل السلطة وحاشية السلطان) وذلك لأن السجود لابد أن يكون على ما يقرب الإنسان من التواضع والاقتصاد والتقشف وخشونة الأرض. ماذا دهانى؟! فى النقراش بالبحيرة غرب الدلتا ولست فى سان بطرسبرج أو المسجد شيعى بالخليج، جئت هنا أبحث عن جغرافية نوقراطيس لا عن فلسفة التشيع وذكريات ربع قرن مضت خِلتُ أنى أودعتها قعر الذاكرة.
خرجت من مسجد النقراش واخترت على سلالم المسجد بعض المتعلمين وسألتهم عن الأماكن التى يمكننى إن زرتها فى بلدتهم التعرف على التاريخ اليونانى ومشاهدة آثار نوقراطيس القديمة. أجمع الناس على أنه لو هناك أية أعمال أثرية هنا، فإنها تتم فى الخفاء ولا يدرى عنها أحد شيئًا وأن النقراش ليست سوى الموقع المنقول من المكان الأصلى للقرية اليونانية والتى تقابلها اليوم قرية «جعيف» ويمكننى الوصول إليها بسيارة خفيفة أو سيرًا على الأقدام.
ودعت المصلين وشكرتهم على المعلومات والإرشادات وسرت على الأقدام متجها إلى جعيف بين حقول الأرز والذرة وأكوام من الطين المستخرج من تطهير القنوات والترع، فى منتصف الطريق انشقت الأرض عن بائع جائل يحمل ثمار جوافة صغيرة جمعها للتو من الشجر حتى إن بعضها ما زال أخضر اللون، صغير فى حجم الليمون، اشتريت بعضًا منها وكان على مقربة منى سبيل من الماء البارد فغسلت بضع ثمرات، وجالسًا على أحد جنبات الحقول أقضم الواحدة تلو الأخرى وأتطلع إلى جعيف، التى بدت هناك فى الأفق القريب.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات