عندما يستعيد المرء فى ذهنه تطور الأحداث فى مصر منذ 12 فبراير 2011 (أى خلال الأربعة عشر شهرا التى انقضت على تنحى حسنى مبارك عن الحكم)، تصيبه الدهشة من تكرر الأحداث المؤسفة وغير المتوقعة، وكذلك تكرر قيامنا بالبحث عن أعذار وتطمين أنفسنا بالأوهام. فنقول إن ما حدث كان مجرد خطأ غير مقصود، أو نتيجة إهمال أو مجرد قلة الخبرة.. إلخ.
ينشب حريق فى كنيسة بإمبابة، ونرى الأمور تتطور على هوى المتطرفين، فيسيرون هاتفين ومنددين بالأقباط، من كنيسة إلى أخرى، ثم ينددون بتعيين محافظ قبطى، ويقطعون الطرق فى الصعيد ثم السكك الحديدية، ويستمر الحال على ذلك أياما. ثم نراهم يمنعون تحويل مركز مسيحى إلى كنيسة بالقرب من أسوان، فإذا قام الأقباط بمسيرة سلمية إلى ماسبيرو، أطلق عليهم الرصاص. فكيف حاولنا تفسير الأمر؟ رجال الأمن ممتنعون عن التدخل لأنهم غاضبون أو حاقدون على الثوار منذ أيام الثورة الأولى، أو أصاب الجزع أحد أفراد الشرطة العسكرية مما يرى فى ماسبيرو فسار بسيارته المصفحة على غير هدى فقضى على بعض الأقباط، أو أن المجرمين الحقيقيين هم «البلطجية» الذين لا هدف لهم إلا مجرد البلطجة.. إلخ.
الصحف تنشر فى البداية تقديرات مذهلة لحجم الأموال التى هربها رجال العهد السابق إلى الخارج. ثم يتوقف النشر عن هذا الأمر. فإذا تذكره الناس وتساءلوا عنه، سُرّب إلى الصحف خبر الاتصال ببعض الدول الأجنبية بغرض استرداد الأموال. حتى ينسى الناس الأمر من جديد، وتمر شهور، فإذا بدأ الناس يتساءلون مرة أخرى، صرح أحد المسئولين بأن الأمر يتطلب رفع قضية أولا، ثم لا يُذكر أى شىء عن سبب عدم رفع القضية، أملا فى أن ينسى الناس الأمر من جديد أو يفقدوا أى أمل فى استرداد الأموال.
بعد سقوط أول رئيس وزارة تم تعيينه فى ظل حسنى مبارك، أسندت رئاسة الوزارة إلى رجل ليس له تاريخ معروف فى النضال السياسى، بل كان فقط وزيرا فى حكومة من حكومات حسنى مبارك. لماذا يختار هذا الرجل لهذا المركز المهم بعد نجاح ثورة مهمة جدا؟
قيل إن الثوار هم الذين اختاروه. وصدقنا ذلك، قبل أن يعرف الجميع أن الرجل كان فى الحقيقة عضوا فى لجنة السياسات التى يرأسها ابن الرئيس والمرشح لخلافته. فهل كان هذا هو أنسب رجل لهذا الموقع فى ذلك الوقت؟
صبر الناس صبرا مدهشا على استمرار هذا الرجل رئيسا للوزراء رغم إبقائه على بعض الوزراء وثيقى الصلة بسياسة النظام الذى ثار الناس عليه، واختياره غير الموفق لبعض المعاونين الجدد. قلنا إن المسألة مجرد قلة خبرة فلماذا يختار قليل الخبرة فى هذه اللحظات الحاسمة؟
قيل إن الذى اختاروه هم أنفسهم قليلو الخبرة. فيا لسذاجتنا وطيبة قلبنا!
عندما لم يعد مفر من تغيير رئيس الوزارة بعد شهور من توليه المنصب، جاء اختيار ليس أقل غرابة، فلم تمض أيام قليلة حتى اكتشف الناس أن الرجل بعيد عن التعاطف مع الثوار، بل ولا يملك أى سلطة حقيقية أصلا، تماما مثل سلفه.
تكرر مثل هذا مع محاكمة الرئيس المخلوع وابنه، وفيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، والخارجية وتوفير الشعور بالأمن وإشاعة الثقة فى المستثمرين والسياح.. إلخ.
فى كل هذه الأمور يقال نصف كلام، وتتخذ أنصاف إجراءات، وتوكل الأمور لمن لا يملك فى الحقيقة أى سلطة لاتخاذ أى قرار.
إذا كان كل هذا الذى ذكرته صحيحا، أو قريبا من الصحة، فلا عجب أن يشعر الناس بالإحباط، إذ يبدو الأمر وكأن «مقلبا» كبيرا قد دبر لهم ووقعوا فيه، وهو شىء خطير عندما تكون الضحية أمة بأسرها، وعندما يكون «المقلب» بهذه الدرجة من القسوة، وقع فيه آلاف الضحايا من القتلى وفاقدى البصر وانطوى على كرامة أشرف البنات، والتضحية بوحدة الأمة، وإثارة البغضاء بين الناس، بعد أن كانت الثورة تبشر بنشر المحبة بينهم، وإطلاق عقال التفكير الخرافى فى وسائل الإعلام، وفى داخل مجلس الشعب نفسه.. إلخ، وكأن كل شىء أصبح مباحا للوصول إلى هذه النتيجة: وأد الثورة بأى ثمن.
●●●
لماذا وقعنا فى هذا المقلب بهذه السهولة، وطوال هذا الوقت؟
لى فى ذلك تفسيران: الأول أنه عندما يشتد الفرح وترتفع الآمال والطموحات يميل المرء إلى أن يكون حسن الظن بالناس، وبالعكس يميل إلى إساءة الظن بهم إذا كان بائسا ويائسا. وقد كان فرحنا شديدا بنجاح ثورة 25 يناير فى إسقاط حسنى مبارك ومشروع التوريث، وارتفعت آمالنا وطموحاتنا إلى عنان السماء، فأصبحنا فريسة سهلة للخداع.
والتفسير الثانى أن المرء يميل إلى البحث عن تبريرات الأمر الواقع إذا لم يكن أمامه بديل. وقد كان هذا حال الثوار بعد سقوط حسنى مبارك واستلام المجلس العسكرى للسلطة. إذ لم يكن لدى الثوار زعيم واضح ومعروف، أو حزب يجمع عليه الناس، وقد قدم المجلس العسكرى نفسه باعتباره حامى الثورة.
فما هو البديل الذى كان متاحا للثوار لاستلام السلطة بعد سقوط رأس النظام؟
●●●
ليست هذه أول مرة تتعرض فيها مصر «لمقلب» من هذا النوع. فإذا استرجعنا الخمسين عاما الماضية وحدها، نستطيع أن نخص ثلاثة مقالب على الأقل، كانت من الجسامة بحيث إننا لازلنا نعانى من آثار كل منها حتى اليوم.
كان «المقلب» الأول هو ما دُبر لنا فى الستينيات وأدى بنا إلى هزيمة 1967. كان المتآمرون بالطبع هم الإسرائيليون والإدارة الأمريكية. ولكنى لا أستطيع أن أعفى نظام عبدالناصر من المسئولية عن فداحة الهزيمة، وعن شدة وقعها فى نفوس المصريين. أما فداحة الهزيمة، فتظهر فى السهولة التى استطاع بها الجيش الإسرائيلى شلّ القدرة العسكرية المصرية، مما كشف عن أخطاء شنيعة فى إجراءات الاستعداد لهجوم متوقع.
وأما شدة وقعها على نفوس المصريين، فترجع إلى استمرار الجهاز الإعلامى الناصرى، لعدة سنوات قبل الهجوم، (بل وحتى الساعات الأخيرة من الاعتداء الإسرائيلى) فى إيهام الناس باستعدادنا التام وقدرتنا على صد أى هجوم. لقد وقع ضحية لهذا الوهم أكبر محللينا وكتابنا السياسيين وأكثرهم وطنية، إذ لم يخطر ببالهم أن من الممكن أن يصل خداع الإعلام إلى هذا الحد. وقع أعقل المصريين فى هذا الفخ كما وقع أبسطهم، مدفوعين بنفس العاملين اللذين سبق ذكرهما: ارتفاع الآمال التى فجرت الثورة (إذ لم يتصور المصريون أن ثورة 1952 التى أطاح فيها الجيش بنظالم الملكية الفاسد، يمكن أن تنتهى بهزيمة عسكرية ساحقة)، فضلا عن عدم وجود بديل واضح للممسكين بالسلطة، إذ قضى أصحاب السلطة الجديدة بعد 1952 على أى فرصة لظهور قوة سياسة منافسة لهم.
●●●
كانت هزيمة 1967 إذن «مقلبا» كبيرا بل كارثة، ومع ذلك اقتصر الإعلام الرسمى على وصفها «بالنكسة»، ثم جاءت السبعينيات، فتوجه المصريون خلالها لخدع أخرى كثيرة حتى تبين للمصريين فى نهاية العقد بأن الوظيفة الحقيقية لم تكن أكثر من تسليم البلاد للأمريكيين.
وعقد صلح منفرد مع الإسرائيليين. ولكن جهاز الإعلام الجبار كان يصور خطوات السادات على هذا الطريق وكأنها خطوات نحو تحقيق الرخاء والاستقلال. هكذا صُوّر مثلا قيام السادات بطرد الخبراء السوفييت فى 1972 على أنه ممارسة لإرادة مصر المستقلة، وصوْر عزل القائد العظيم سعد الشاذلى من منصبه العسكرى ونفيه سفيرا فى لندن ثم البرتغال، على أنه عقاب له على تردده وفشله، وانتهى الأمر بسجنه بزعم إذاعته لأسرار حربية، وصوّر أنور السادات على أنه «بطل الحرب والسلام»، مع أنه لم يكن بطلا لا فى الحرب ولا فى السلام. ثم فوجئنا بزيارة مشئومة من الرئيس المصرى للقدس، سميت وقتها «مبادرة»، وانتهت بعقد معاهدة مشئومة أيضا بين مصر وإسرائيل فى 1979، كرّست تبعية مصر لإسرائيل وأمريكا طوال الثلاثين عاما التالية.
●●●
بعد مقتل السادات وتولى حسنى مبارك الحكم بدأ الرئيس الجديد حكمه ببضع خطوات بعثت الآمال من جديد فى أن تكون الثمانينيات بداية لعهد مختلف تتصالح فيه السلطة مع المعبرين عن الآمال الوطنية. وصدّقه بعض من أكبر المناضلين الوطنيين المصريين، أو على الأقل قرروا أن يعطوه فرصته، ولنفس الأسباب مرة أخرى:
الطموحات كبيرة والبديل بعيد المنال. ألم يفرج الرئيس الجديد عن الزعماء السياسيين الذين كان قد اعتقلهم السادات قبيل مقتله؟ ألم يُعد الصحف التى كانت مصادرة إلى الظهور؟ وألم يحشد كبار الاقتصاديين المصريين الوطنيين باختلاف مشاربهم فى مؤتمر كبير لوضع سياسة اقتصادية جديدة؟ دخل المصريون فى حلم جميل (وإن كان أقصر فى هذه المرة من المرتين السابقتين) قبل أن يكتشفوا أن عهد مبارك لم يكن إلا صورة مكررة من عهد السادات إلا فى أمرين: إن الفساد الذى بدأ فى عهد السادات زاد استفحاله، وأن الرئيس الجديد لديه مشروع لتوريث الحكم لابنه.
●●●
ثم ظهر فجر أمل جديد فى 25 يناير 2011، فارتفعت طموحاتنا وأحلامنا إلى مستويات أعلى من أى مرة سابقة، (لأن الظلام السابق على الثورة فى هذه المرة كان أشد، ومدته كانت أطول). ولكن ها هى الأحلام تبدو مهددة بالإجهاض بعد مرور أقل من سنة ونصف. لماذا إذا لا يعترينى اليأس من كثرة ما تكرر المشهد: ارتفاع الآمال ثم هبوطها، بزوغ حلم جميل يتحول بعد فترة إلى كابوس؟
عندما أسأل نفسى هذا السؤال تبادر إلى ذهنى الإجابة التالية: إن ما يبدو فى التاريخ المصرى من تكرر الصعود والهبوط لا يعنى أبدا أننا ننتهى دائما إلى نفس النقطة التى بدأنا منها. إن الصعود والهبوط فى التاريخ المصرى هما ارتفاع وانخفاض حول خط دائم الصعود. إننا لا نعود أبدا إلى نقطة الصفر، بل نبدأ دائما من نقطة أعلى وحالة أفضل، مهما بدت مخيبة للآمال.
عندما ضُربت تجربة محمد على الرائعة فى 1840، وبدا وكأن القوى المناوئة للنهضة المصرية قد حققت أهدافها، ظهر بعد ثلاثين عاما أن ما فعله محمد على فى ميادين التعليم والصناعة والزراعة كان كافيا، رغم كل ما حدث له، لتجديد النهضة فى مصر فى عهد إسماعيل. وعندما بدا وكأن الاحتلال الإنجليزى فى 1882 قد وضع حدا لطموحات إسماعيل وأحمد عرابى فى تحقيق الاستقلال لمصر، حدثت بعد 37 عاما من بداية الاحتلال، ثورة رائعة، هى ثورة 1919، أعقبتها ثورة ثقافية واقتصادية رائعة أيضا، حققها تلاميذ الشيخ محمد عبده فى الثقافة، وطلعت حرب فى الاقتصاد، فجددت شباب الفكر المصرى وشباب الصناعة المصرية.
ثم جاء عبدالناصر فبنى على ما سبق لطلعت حرب بناءه فى الصناعة ودشّن نهضة ثقافية جديدة على الأساس الذى كان قد وضعه أمثال طه حسين والحكيم والعقاد.. إلخ.
عندما بدا فى 1967 وكأن آمال المصريين فى تحقيق نهضة اقتصادية وثقافية قد تحطمت مع الطائرات، تبين بقيام ثورة 25 يناير 2011، أنه أثناء الأربعين عاما الحالكة التى تلت هزيمة 1967، كان يتخلق جيل جديد من المصريين، رجالا ونساء، يشعون بالحيوية والاستعداد للتضحية، ولم نر مثلهم طوال القرنين الماضيين. وهو جيل لا يمكن أن يسمح بأن تعود الأمور مثلما كانت عليه قبل 2011.
●●●
هناك مثل إنجليزى يقول: «إن ما لا يقتلك يقويك» أى أن أى ضربة أو خدعة (أو مقلب) إذا لم ينته بالقضاء عليك فإنه لابد أن يتركك أقوى مما كنت من قبل. وأظن أن التاريخ المصرى، بكل ما تضمنه من ضربات ومكائد، يثبت صحة هذا المثل.