أذكر حينما كان العمل الدرامى مشروعا عظيما يعد له بين موسمين فيما يناهز العام. أذكر أعمالا بوزن مسلسل ليالى الحلمية (الأجزاء الأولى) ورأفت الهجان والشهد والدموع والراية البيضاء.. كنا صغارا نرجو أن يتمكن فريق العمل من إنجاز الجزء التالى من المسلسل قبل أن يرتد إلينا شهر رمضان، ولم يكن هذا بالأمر اليسير.
إنتاج عمل درامى ناجح يتطلب بحثا ودراسة وتدقيقا وتدريبا وعناية خاصة بكل التفاصيل. اليوم نشاهد الحلقات الأولى من المسلسلات ونحن نعلم أن أكثر من نصف الحلقات لم يتم تصويره بعد! بما يتضمنه ذلك من مخاطر توقّف التصوير لأى سبب، كالخلافات التى تنقلها لنا وسائل الإعلام بين الممثلين والمنتجين، وما ينطوى عليه هذا الأمر من تهاون حتمى فى الإتقان وتراجع ملموس فى الجودة.
معظم الأعمال الفنية بدءا بالأغانى والمسلسلات والأفلام وحتى الإعلانات الصاخبة باتت رهينة «الإفّيه» أو النكتة التى يتضمنها العنوان. ثم يجهد صانعو الإعلانات المصورة أنفسهم فى البحث عن أفيش لعمل أمريكى أو أوروبى مشهور من أجل انتحاله، واستخدام تقنيات «الفوتوشوب» لوضع أبطال العمل المحلى موضع أبطال العمل الأصلى، بما فى ذلك من تعدٍ سافر على حقوق الملكية الفكرية، واستخفاف بثقافة وذائقة المشاهد المصرى، ذلك المشاهد الذى لم يستسغ هيئة أحمس وهو كثّ اللحية فأجهض المسلسل فى مهده.
بخلاف ذلك فإن النص باهت مكرور، والإبداع غائب يعتمد على المهارات الفردية لكبار الممثلين (تماما كما فى كرة القدم الشعبية)، والنكات ثقيلة متوقعة، واللغة رديئة مسفّة، والغناء رتيب مزعج، والإتقان شبه منعدم.. وطبعا هناك استثناءات وأعمال جيدة، لكنها تنافس على أسس غير عادلة، فهى تتحمّل تكلفة باهظة للانتظار الذى عادة ما يكون صنوا للإبداع، وتواجه مخاطر ضياع الموسم، وفقد إيرادات الإعلانات، وعزوف المنتجين.. لكنها متى خرجت للنور تعيش طويلا وتخلد فى ذاكرة الأمم، وتساهم بحق فى صناعة القوة الناعمة للدول.
هل يمكن مقارنة مسلسل «الخواجة عبدالقادر» بمسلسل «نجيب زاهى زركش» بطل العمل واحد وهو الفنان الكبير يحيى الفخرانى، ومؤلف العمل واحد وهو الكاتب عبدالرحيم كمال. من المبكّر طبعا الحكم على العمل الأخير، لكن البدايات كاشفة عن مستوى مختلف فى فن صناعة الشخصيات، وإحكام الحبكة الدرامية، وجودة النص.. بل وفى الموسيقى التصويرية التى تتشابه فى «زركش» مع كثير من أعمال الفنان عادل إمام الأخيرة، وغنى عن الذكر ما صنعته موسيقى الفنان المبدع عمر خيرت فى وجدان كل من شاهد أو ألقى السمع ولم يشاهد مسلسل «الخواجة عبدالقادر». لا أقصد أن أنصّب نفسى ناقدا دراميا أرفع أعمالا وأخفض أخرى، بل أكتب مقالى هذا بكل تواضع كمشاهد عادى، بل كمستهلك قديم لمنتجات موسمية تمطرنا بها شركات الإنتاج الدرامى، والإعلانات المتلفزة طوال شهر رمضان المبارك عبر سنوات.
***
ولأن تلك المنتجات باتت الأكثر رواجا فى أسواق شهر رمضان فى بلادنا، فليس أقل من الوقوف عندها لفهم ظواهرها الجديدة، والنظر إلى عائداتها وتكاليفها بعين الباحث الاقتصادى. اليوم لدينا عشرات القنوات الفضائية والمسلسلات، ومئات الإعلانات، وآلاف الممثلين، وملايين المشاهدين، وعدد من منصات المشاهدة الخالية من الإعلانات نظير اشتراك، ومواقع كثيرة للتواصل الاجتماعى ترقب وتحلل وتصوّت.. كلها تشكّل معا صناعة ضخمة، لا يمكن أن تستمر لو لم يتم تقييم جدواها الاقتصادية والاجتماعية، ولو لم تراع فى بث منتجها معايير الجودة. تتشابك تلك الصناعة مع اقتصاديات الأعمال الخيرية التى تروج فى رمضان، وتلقى بثقلها وميزانيات تسويقها السنوية فى هذا الشهر الكريم، مراهنة فى الغالب على زيادة إفراز هرمون الخير لدى الصائمين! وطول مكوثهم أمام الشاشات فى رمضان.
فى الماضى وعلى الرغم من غياب مواقع التواصل الاجتماعى، كان التصويت سهلا لصالح العمل الدرامى الجيد. فالشوارع تكاد تخلو من المارة عند ساعات عرضه، وكان ذلك محفّزا لشركات الدعاية والإعلان كى تخصص مساحة أكبر لمنتجها الإعلانى فى أوقات بث هذا العمل. كانت الإعلانات الجيدة تعرف متى تغنّى بها أو رددها طلبة المدارس، وآنس بها الكبار فى مجالسهم. كان المجتمع صغيرا على كبره، محدودا على اتساعه وتنوّعه، والسبب يكمن فى ندرة البدائل.
أما عن الجدوى الاقتصادية للأعمال الدرامية الرمضانية فيلزمها أبحاث ضخمة ترصد التدفقات النقدية والعائد على الاستثمار فى تلك المشروعات الموسمية. المشاهد هو الرقم الأهم فى تلك المعادلة، فهو الذى يموّل ــ نظريا ــ تلك الأعمال من خلال مشاهدته القسرية للمواد الإعلانية الغزيرة التى تتوزع خلالها دقائق متناثرة من المسلسلات! ويتم رصد كثافة المشاهدة بوسائل تقليدية مثل استطلاعات الرأى، ووسائل تقنية لقياس كثافة مشاهدة القنوات وقت عرض المسلسلات. كثافة المشاهدة لا تعنى انتباه المستهلك إلى الإعلان، بل إن كثيرا من الناس ينتهزون فرصة عرض الإعلان للانصراف إلى بعض أشغالهم وتأدية صلواتهم، كذلك فإن الانتباه إلى الإعلان لا يعنى بالضرورة ترجمة ذلك إلى سلوك شرائى، خاصة مع عدم الاتساق بين الرسالة الإعلانية واحتياجات المتلقى. فإذا كانت الإعلانات التى تموّل الأعمال الدرامية من ميزانياتها التسويقية تخاطب سنويا تلك الفئة التى لا تملك عشرات الجنيهات لمتابعة منصات المشاهدة الخالية من الإعلانات، ومثلها من جنيهات لسداد فاتورة الإنترنت الناتجة عن استهلاك مادة تلك المنصات، فمن العبث أن تكون مستهدفة بإعلانات عن قصور وفيلات فى منتجعات تقدّر قيمتها بالملايين! ومن الغريب أن يغفل المعلنون عن أثر المزاحمة والإلحاح المزعج على سلوك المستهلك. لكن الباحث لا يتسرّع بالقفز إلى أحكام فى غيبة البيانات والدراسات، لذا فأنا متشوق إلى قراءة دراسات قطاعات التسويق بالشركات المعلنة، لمحاولة تقدير العائد على تكاليف التسويق، وأثر تلك الحملات التسويقية على مبيعات شركاتهم الموسمية.
إلى أن تصدر تلك الدراسات فإن الراجح لدينا عشوائية تخصيص ميزانيات التسويق للشركات المعلنة على الفضائيات فى رمضان. وأن رداءة العمل الفنى لا تنعكس بشكل واضح على كثافة المادة الإعلانية المتخللة لفترة عرضه! وأن ميزانيات التسويق يجب أن يعاد تبويب الجانب الأكبر منها فى القوائم المالية للشركات المعلنة فى رمضان لتصبح «مصاريف لدعم الإنتاج الفنى» أو «الترفيه المجتمعى»، مثلها مثل ما يخصص من نفقات للمسئولية المجتمعية! ولأن آليات السوق تعمل بذكاء وديناميكية، فإن الممثلين أدركوا هذا العام وبصورة أكبر حقيقة المشغّل الفعلى لهم، الدافع لرواتبهم (وهو ليس بالتأكيد المشاهد)، ولذا فقد خصصوا وقتا أكبر للعمل فى الإعلانات، ومنهم من لم يقدم عملا فنيا واحدا واكتفى بالتمثيل والغناء فى المواد الإعلانية!
***
لست فى حاجة إلى ذكاء شديد كى تتوقع تحوّلا جديدا فى صناعة الدراما الرمضانية، ومزيدا من العزوف عن أداء المسلسلات من قبل كبار النجوم لصالح أداء الإعلانات ذات المكسب السريع المجزى. ينشأ عن ذلك تراجع مستمر فى القيمة والمحتوى الإبداعى للأعمال الدرامية، واكتفاء المنصات بعرض اليسير منها، وكما اختفت الفوازير وألف ليلة وليلة والمسلسل الدينى من تراثنا الإعلامى، فسوف تختفى الأعمال الدرامية التقليدية من التلفزيون فى رمضان، ويصبح المنتج الإعلانى وحيدا يبحث لنفسه عن موقع للعرض على شاشات الفضائيات بصورة مستقلة لا شأن لها بالدراما ولا بالفنون، إلى أن تنتبه الشركات المعلنة إلى بديل أفضل لتخصيص ميزانيات التسويق، أو يجتمع الناس على نشاط أكثر استثمارا للوقت فى هذا الشهر الكريم.