قامُوس المَبسُوطين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المَبسُوطين

نشر فى : الجمعة 19 أبريل 2024 - 6:55 م | آخر تحديث : الجمعة 19 أبريل 2024 - 6:55 م

تكاثرت على مَدارِ شهر رمضان إعلاناتٌ دعائيةٌ تروّج لمأكولاتٍ مُستحدَثة غريبة، وقد صرنا نسمع في كل مناسبة وبغير مناسبة أيضًا، عن أسماء لحلوى هي مزيجٌ مما عرفنا ومما لم نعرف؛ المَكشوفة والمَكسوفة والمَدلعة والتمرانة، وغيرها مما يشي بتراجع بساطةِ المأكل لصالح تركيباتٍ مُتنوعة؛ تُفسِد المذاقَ وتشوّشه. عن نفسي لم أزل أفضّل الأكثر أصالة والأقلَ تعقيدًا؛ القطائف العادية التي لا تحملُ حشوًا عجيبًا على رأس القائمة، ومثلها الكنافة.

• • •

بَسَط أيّ مَدَّ، الباسط هو الفاعل والبَسْط مَصدر، أما المَبسوط فمفعول به والمعنى الدارج الذي نعنيه بكوننا مَبسوطين؛ فأن نفوسَنا تحملُ براحًا لا ضيقًا، وسِعةً لا انكماشًا، وقديمًا قال الشافعي: "الانقباض عن الناسِ مَكسبة للعداوة والانبساط إليهم مَجلبة لقرناء السُّوء؛ فكُن بين المُنقبض والمُنبسط". إن تحدَّث الناسُ عن هذا الذي أُعطيَ بَسطةً في الجَّسد؛ فالمراد ضخامة القامة، وإن ذكروا البَسيطة؛ فالقصد هو الأرض كونها ممدودة أمام السائرين عليها.

• • •

الأمر البسيط هو الواضح المكشوف ومن ثم يُفترَض أن يكون سهلًا لا معقدًا. يعمد المُعلمون المحترفون الذين يجمعون طلابهم في مراكز الدروس الخصوصية؛ إلى تبسيط المناهج وصياغة عبارات مقفاة تجعل الحفظَ أيسر والفهمَ أقرب؛ وإذ هم يُبسِّطون ما تعذَّر الإلمام به ويهونون على الأمهات والآباء مَهامًا شاقة عسيرة، فإنهم يغالون في أثمان الحِصص المُقرَّرة، ويبالغون في مقدار ما يتحصَّلون عليه؛ ورغم النتائج المُبهرة على مستوى الدرجات والتقديرات؛ فإن الحاصل في نهاية الأمر ليس سوى بشر متناسخين؛ لا يتميَّز أحدهم عن زميله بابتكار ولا بمهارة خاصة.

•• •

 إن تبسَّط المرء في حديثه كان القصد أنه ترك التكلف والادعاء، وإذا قيل قد تبسَّط الرجل دون تخصيص؛ فالمعنى أنه ترك أصول الاحتشام وقارب الخلاعة، والقصد هنا قَدح لا مَدح؛ إذ بعض الأفعال الملتبسة تؤخذ من باب الميع والليونة، ويوصم صاحبها بما يأنف العامة ممن يفضلون الخشونةَ والغلظة على النعومة.

• • •

قد يَبسِط المرءُ يدَه فيكون في أعين الناس كريمًا جوَّادًا، وقد يمسكها ويغلها إليه فيبدو شحيحًا مقترًا؛ والحق أن الظروف القاهرة قد أقعدت العديدين عن العطاء، وأرهقت كواهلهم بأعباء خارجة عن إرادتهم، ولإن اعتزم الواحد معاونة آخر في مثل هذه الأجواء العاصفة، وبسط له يدَّ المساعدة فانتشله من أزمة ثقيلة؛ لكان فعله طيبًا جميلًا.

• • •

العبوسُ سَمْتُ غالب المارة في الشوارع والطُّرقات خلال الآونة الأخيرة؛ يُرى الواحد وقد قطب ما بين حاجبيه وزمَّ شفتيه وارتسمت على ملامحه آيات البؤس تارة والغضب تارة أخرى، واليأس والإحباط ثالثة؛ فإن كان سعيدَ الحظ؛ وجد مَن يُخفّف عنه حاله، ومن يُهوّن عليه فيضَ الهمّ والكًّرب، ومن يداعبه بقولة: "ابسطها يا عم".

• • •

كثيرًا ما يقول الناس "يا باسط" استعانة بالرب على ما فيه شقاء ومكابدة للمصاعب.

 • • •

إذا انبَسَط الواحد فقد انشرح قلبُه وسُرَّ، وإذا بَسُطَت أساريره فقد استرخت وشابها الارتياح، وإن بَسُطَ لسانه فالمعنى أنه انطلق بالكلام دون لعثمة أو ارتباك، أما إذا بَسُطَ المكان فقد اتسع وضم الجميع. تصفُ المعاجم الشَّخصَ البَسيطَ بأنه طيبٌ نقي السريرة، لا يقدر على التخابُث أو التلاعب؛ لكنه بتعريفاتنا المعاصرة ساذجٌ، يسهُل الإيقاع به وخداعه.

• • •

البَسطةُ هي المساحةُ الواسعةُ التي تفصِلُ أبواب الشقق في معظم البنايات عن بعضها البعض؛ كانت فيما مضى ملعبَ الطفولة، وحاضنةَ القفزات المُتهورة، والألعاب وفيرة الحركة التي تتطلَّب مكانًا خارج المنزل. أصبحت البَسطةُ بمرور الأيام مكانًا موحشًا، لا يتلاقى الصغار عنده إلا فيما ندر، ويفضلون عليه المكوثَ في بيوتهم؛ حاملين هواتفهم، مُتنقلين من موقع افتراضيّ لتطبيق لمحادثة؛ دون أن يتحركوا شبرًا عن مواضعهم، وكأن سيقانهم وأذرعهم قد خُلِقَت عبثًا.

 • • •

إذا أحبَّ الواحد أن يستخدم أسلوبًا لبقًا في رده على طلب ما؛ لقال: بكل سرور وبكل ممنونية. السعادة والسرور والفرحة مرادفات للانبساط؛ لكن بينها فروقًا واختلافات. كتب إبراهيم ناجي في أحد أجمل أبيات قصيدة الأطلال: "ومشينا في طريق مقمر .. تثب الفرحة فيه قبلنا"، وقد تضافرت معه موسيقى السنباطي، ونبرات أم كلثوم لتعطي جميعها للكلمات حيوية لافتة، ولتوفي الفرحةَ حقَّها وتُضاعِف من روعتها. في الفَرحِ حركةٌ وصَخْبٌ، وفي السعادة والسرور وقارٌ واتزان، بينما في الانبساطِ استرخاءٌ وهدوء.

• • •

يقول المأثور الشهير: "خلّ البساط أحمدي"، والوصفُ مُستَمَد من صاحب المقام أحمد البدوي الذي امتلك بساطًا صغيرًا بمساحة مجلسه؛ لكنه كان يسع في الوقت ذاته من يبغي الانضمامَ إليه ولا يقصر عن استضافة المريدين. ثمَّة مجاز شبيه يمكن العثور عليه في المثل الشعبيّ الطريف: "البيت الضيق يسع من الحبايب ألف"؛ فالصحبة ما طابت وسعت الجميع، والعكس أيضًا صحيح؛ إذ تغدو المساحة الشاسعة قُمقُمًا ما انضم إليها شخصٌ واحد ثقيل الحضور.

• • •

تحدث الأقدمون عن بَساطة المظهر التي عادة ما تقترن بعُمق الجَّوهر؛ كلما كان باطن الشخص ثريًا خصبًا؛ تضاءل اهتمامُه بهيئته، وكلما كان فارغًا أجوفًا؛ تضاعَف تركيزُه على ما يرى الناسُ مِن مَلبسه وزينته، والحقُّ أننا صرنا نرى مظاهرَ لامعةً برَّاقة؛ لا تعكس الدواخل بل تُخفيها، وتخبئ ما بها من عطنٍ وعفونة، والحِكمةُ في ألا يقع الرائي فريسةً لما يتلألأ، وأن يُميّزَ القيّمَ من التافه والأصيلَ من الغَث.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات