حسابات المصالح الأمريكية والأزمة الأوكرانية - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 10:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حسابات المصالح الأمريكية والأزمة الأوكرانية

نشر فى : الثلاثاء 19 يوليه 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 يوليه 2022 - 8:10 م
يعتقد الكثيرون أن الأزمة الروسية الأوكرانية لم تكن لتتصاعد إلى ما وصلت إليه لولا السياسة التى انتهجتها الولايات المتحدة وحلف الأطلنطى لاستقطاب الدول الأوروبية واحدة تلو الأخرى للانضمام لحلف شمال الأطلنطى، إلى أن جاء الدور على أوكرانيا، وحانت اللحظة التى كان الحلف يعد لها منذ أكثر من ثلاثين عاما بشأنها، ليصبح الحلف بذلك فعليا على حدود روسيا وفى قلب خاصرتها، الأمر الذى توجب على روسيا مواجهته حماية لأمنها القومى فى لحظة حاسمة لم يكن ممكنا أمام روسيا فيها سوى رد الفعل بالقدر المتناسب مع خطورة الموقف.
وقد بينت تلك الأزمة جانبا هاما من جوانب الازدواجية السياسية الأوروبية، فيما يتعلق بالتعامل مع روسيا، وربما كان هذا الجانب قريبا أكثر ما يكون إلى شخصية دكتور جيكل ومستر هايد، ففى الجانب السلس من العلاقة الأوروبية الروسية، هو تعاون الجانبين لسنوات طويلة فى مجال الإمدادات بالوقود من النفط والغاز الطبيعى، إلى الحد الذى باتت فيه شبكة الإمدادت الروسية إلى أوروبا واحدة من أكبر شبكات الإمداد بالغاز فى العالم، موفرة ما نسبته 42% من الاحتياجات الأوروبية من الغاز الروسى ذو الجودة العالية والسعر المناسب، فضلا عن 27% من النفط الروسى ومشتقاته، و47% من الفحم الروسى المورد إلى أوروبا.
• • •
أما الجانب الوعر من العلاقة الأوروبية الروسية فيتعلق بسياسات الدول الأوروبية كأعضاء فى حلف الأطلنطى، وما كشفت عنه الأزمة الروسية الأوكرانية من تبعية أوروبية شبه مطلقة للولايات المتحدة التى تقود ذلك الحلف وتحدد توجهاته وسياساته، وفق مصالحها واهتماماتها فى المقام الأول، وطوال السنوات السابقة، عملت الولايات المتحدة ودول الحلف على قيام حكومة مناوئة لروسيا فى أوكرانيا، وعززت تعاونها معها على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية، وواصلت تحريضها لها على استفزاز روسيا، الأمر الذى وصل إلى حدود دائرة الخطر بالنسبة للأمن القومى الروسى، فكانت العملية العسكرية الروسية.
وفى الأسابيع الأولى التالية لاندلاع الأزمة اندفعت الولايات المتحدة لاتخاذ موقف متشدد لمواجهة روسيا بتجميد أصولها واحتياطياتها وإعلان حزم متعددة من العقوبات عليها فى جميع المجالات، وقد يكون ذلك مفهوما من الولايات المتحدة التى لديها مواردها الخاصة الهائلة من النفط والغاز ومصادر الطاقة، لكن علامة الاستفهام التى طرحت نفسها لجميع المحللين السياسيين فى تلك الفترة المبكرة هو اندفاع الدول الأوروبية خلف الولايات المتحدة فى اتخاذ هذا النهج المتشدد تجاه روسيا، وهى الأكثر اعتمادا عليها كمصدر للنفط والغاز، ولم يكن فى المخزونات الأوروبية وقت اندلاع الأزمة سوى 35% من طاقتها التخزينية.
والأمر الذى لا جدال بشأنه هو ما بينه هذا الموقف من تبعية أوروبية شبه مطلقة لمقررات السياسة الأمريكية، حتى وإن هدد ذلك المصالح الاقتصادية الأوروبية، الأمر الذى عبر عنه بصوت خافت العديد من الاقتصاديين ورجال الصناعة والمصارف ومديرى الشركات الأوروبية الكبرى، الذين أعلنوا تخوفهم من تداعيات ذلك على الاستقرار والأداء الاقتصادى والمالى فى أوروبا.
وحتى فى فترة ما قبل الأزمة الراهنة، حرصت السياسة الأمريكية على إيقاف عجلة النمو فى العلاقات الأوروبية الروسية فى مجال الطاقة، بل وتعويقها قدر الإمكان، ومشروع نورد ستريم 2 هو المثال الصارخ على ذلك بعد أن تم الانتهاء من خط الأنابيب البالغ طوله 1230 كيلومترا بتكلفة 11 مليار يورو لإمداد أوروبا بـ 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا تمثل أكثر من 50٪ من الاستهلاك السنوى لألمانيا وحدها، إلا أن الولايات المتحدة عاجلت المشروع بعقوبات فى سنوات 2017 و2019 و2020، وهددت الشركات الأوروبية المشاركة فى التنفيذ بعقوبات قاسية، فكان أن أوقفت ألمانيا التصديق على تشغيل المشروع.
• • •
من جهة أخرى، كانت الولايات المتحدة مستفيدة بدرجة كبيرة من الموقف الحرج الذى باتت فيه أوروبا، فالولايات المتحدة التى تعد من أكبر منتجى ومصدرى الغاز الطبيعى فى العالم قامت خلال الشهرين الماضيين بإمداد أوروبا بنحو 45% من احتياجاتها من الغاز الطبيعى بالأسعار المرتفعة السائدة فى الأسواق العالمية للغاز الآن، بينما قامت دولة قطر بإمداد أوروبا بنحو 20% من احتياجاتها فى ذات الفترة، الأمر الذى لا ينفى تطلع شركات الغاز الأمريكية للاستفادة من الموقف الحالى لفتح أسواق جديدة لها فى القارة الأوروبية.
ولعل التساؤل الذى يطرح نفسه فى هذا الشأن هو إلى أى مدى استفادت المصالح الأمريكية من الأزمة الروسية الأوكرانية؟ فالملاحظ هو حرص الولايات المتحدة يوما بعد يوم على تأجيج نيران الحرب الأوكرانية، لأهداف متنوعة تجعل منها المستفيد الأكبر، ولعل الهدف الأهم يأتى من إدراك صانعى السياسة فى الولايات المتحدة بأن هيمنتها على العالم كقوى عظمى وقطب أوحد قد تآكلت إلى حد كبير، فسعت لاستغلال الأزمة الأوكرانية لحصار وإنهاك واستنزاف روسيا وتحجيمها والحيلولة دون عودتها لمكانتها كقوة عظمى قوية اقتصاديا وتكنولوجيا بقدر ما هى قوية عسكريا.
ومن جهة أخرى كان سعى الولايات المتحدة للحفاظ على كيان أوروبا الأطلسية المرتكز على الدور والنفوذ الأمريكى فى أوروبا من خلال حلف شمال الأطلنطى، فى مواجهة مفهومين يعتبران شديدى الخطورة على الاستراتيجية الأمريكية، وأولهما هو مفهوم الذاتية الأوروبية الذى تقوده ألمانيا وفرنسا والقائم على تعزير التعاون الأوروبى المشترك، وهو التوجه الذى تقوده فرنسا وألمانيا، وبخاصة فرنسا التى دعت إلى قيام استرتيجية دفاعية أوروبية خالصة باعتبار أن حلف الأطلسى قد وصل لمرحلة الموت الدماغى، فكانت الأزمة الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة استحضار شبح المارد العسكرى الروسى إلى العقلية الأوروبية، وإحياء دور حلف الأطلنطى، بل والعمل على توسيع عضويته بضم فنلندا والسويد، وبذلك شكلت تلك الأزمة فرصة سانحة للولايات المتحدة لتحقيق التقارب مع حلفائها الأوروبيين بعد التباعد والجفاء الحادث خلال فترة رئاسة دونالد ترامب.
أما المفهوم الثانى الذى تسعى السياسة الأمريكية لتقويضه فهو مفهوم أوروبا الكبرى التى تضم دول الاتحاد الأوروبى مع دول الاتحاد الأوراسى وعلى رأسها روسيا، والذى أخذ ينمو ويتعزز بقوة طوال السنوات السابقة من خلال دبلوماسية مصادر الطاقة الروسية، والتى بلغت قيمتها مع أوروبا 138 مليار دولار سنة 2021 معظمها من النفط والغاز، فضلا عن مليارات أخرى من صادرات روسيا من المعادن الصناعية الهامة مثل النيكل والباليديوم والكوبالت والبلاتين والحديد، وبحيث اعتبرت السياسة الأمريكية أن استمرار ذلك التعاون يأتى على حسابها وانتقاصا من نفوذها ومصالحها وهيمنتها على القارة الأوروبية.
من أجل ذلك كان لابد للولايات المتحدة من تمزيق أواصر العلاقات الأوروبية الروسية، لإفقاد روسيا ذلك السوق الأوروبية الهام لصادراتها، ومن ثم فقدان عشرات المليارات من عائدات التصدير التى تصب فى خزائن الدولة الروسية، ومن جهة أخرى تسببت الأزمة فى إعادة صياغة كاملة لاستراتيجية مصادر الطاقة الأوروبية لتقليل الاعتماد والاستغناء نهائيا عن النفط والغاز الروسى.
أما داخل الولايات المتحدة نفسها، فقد أتاحت تلك الأزمة فرصة ذهبية لتنشيط إنتاج وصادرات المجمع العسكرى الصناعى، حيث نجحت شركات السلاح الأمريكية الكبرى منذ اندلاع الأزمة فى إبرام عقود توريد ضخمة مع الحكومة الأمريكية، وعدد من الدول الأوروبية، ويتوقع إبرام المزيد من تلك العقود مع إعادة صياغة العديد من الدول الأوروبية لسياستها الدفاعية، ومنها ألمانيا التى خصصت فى ميزانيتها 112 مليار دولار، وعليه فقد ارتفعت أسعار أسهم شركات السلاح الأمريكية ارتفاعا مشهودا بعد الأزمة، مع مسارعة لوبى شركات السلاح الأمريكية داخل الكونجرس للموافقة على حزم المساعدات العسكرية المتوالية إلى أوكرانيا والتى قدرت بعشرات المليارات من الدولارات خلال الشهور الخمسة الماضية.
ومما لاشك فيه أن حسابات المصلحة الأمريكية تعلو كثيرا على أى اعتبارات أخرى، فالولايات المتحدة تعرف مسبقا النتيجة النهائية للأزمة الأوكرانية، لكن الأمر يتعلق بكيفية إنخراطها فى الأزمة وتدخلها فيها وتوجيهها لها وفق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، بحيث يبدو أن أوكرانيا لا تزيد عن كونها ساحة تلك الحرب وذريعة تلك الأزمة وأن ضحاياها وخسائرها المادية والبشرية ليست سوى الوقود اللازم لدوران عجلات الأزمة فى الاتجاه الذى تريده الولايات المتحدة.
أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات